د. علي دربج - خاص الأفضل نيوز
لم تكن الألفاظ العنصرية المليئة بالكراهية والتمييز على أساس الجنس واللون، التي تفوّه بها ترامب تجاه مجتمعات المهاجرين من على منبر استوديوهات شبكة الـABC الأمريكية المعروفة، مجرد زلة لسان.
فما حصل في الواقع، إنما مرتبط بسلوك فطري وإرث تاريخي متجذر في الولايات المتحدة، وقد توارثه الأمريكيون أبًّا عن جد، وما زال متغلغلاً ومعشعشاً في عقول وصدور الكثير منهم حتى يومنا هذا، لا سيما أصحاب نظريات تفوق "العرق الأبيض"، وتحديداً الجمهوريين المحافظين منهم، الذين يعتمدون حالياً استراتيجية انتخابية تضع في رأس أولوياتها تسعير الخطاب العدائي تجاه المهاجرين، ونعتهم بأقذع العبارات والأوصاف، كما فعل ترامب حينما اتهمهم بأكل القطط والكلاب وقتل الأطفال، بهدف تجييش واثارة قاعدته الانتخابية المتشددة، والمعبأة أصلاً ضد الملونين.
قصة ترامب مع القطط والكلاب وهجومهم العنصري على الهايتيين
في الأيام الأخيرة، قررت حملة الحزب الجمهوري الرئاسية الترويج لأكاذيب مثيرة حول مجتمع مهاجرين يبلغ عدده حوالي 15,000 شخص في مدينة صغيرة بأوهايو. يوم الاثنين الماضي، افتتح المرشح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، بازار الخداع والضليل هذا، بإعلانه أن "المهاجرين غير الشرعيين من هايتي" يتسببون بـ"الفوضى في جميع أنحاء سبرينغفيلد، أوهايو.. وأن الناس فقدوا حيواناتهم الأليفة التي تم اختطافها وأكلها من قبل أشخاص لا ينبغي أن يكونوا في هذا البلد."
لا شك أن كل ما قاله فانس لا يخرج عن كونه أكاذيب متعمدة، لا تمت إلى الحقيقة بصلة. فمجتمع المهاجرين الهايتيين في سبرينغفيلد، أوهايو، مكون بشكل كبير (إن لم يكن بالكامل) من مقيمين قانونيين في الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، لا توجد أي أدلة، على أن أي حيوانات أليفة قد اختُطِفت مؤخراً في سبرينغفيلد، ناهيك عن تناولها، بشهادة الشرطة والسلطات المحلية الذين كذّبوا هذه المزاعم الخبيثة، وأكدوا أنهم لم يتلقوا أي تقارير عن إساءة معاملة الحيوانات.
اللافت، وبالرغم من نفي الشرطة لأضاليل فانس، إلا أن العديد من أعضاء مجلس الشيوخ، والجمهوريين في لجنة القضاء بمجلس النواب، تبنّوا ادعاءات فانس وقاموا بتضخيمها. كما أن فانس نفسه، تجاهل هذه الحقائق، ومضى قدماً بحملة أكاذيبه، وحملته المسعورة ضد المهاجرين، بعدما قام بإخبار متابعيه على منصة X أن "طفلاً قد قُتل على يد مهاجر هايتي في سبرينغفيلد، والذي لم يكن له الحق في التواجد هنا."
لكن مهلاً. حتى في هذه الحادثة، عمد فانس (مرشح نائب الرئيس) أيضاً إلى تحوير وتزوير وقائعها، من أجل استغلالها لمآرب انتخابية بحتة. فهو كان يشير إلى وفاة إيدن كلارك البالغ من العمر 11 عاماً (والتي كانت حملة ترامب قد نشرتها سابقاً).
غير أن الحقيقة الصادمة، أن كلارك لم يُقتل. بل إنه توفي في حادث سيارة، في أعقاب اصطدام مهاجر من هايتي ــــ لم يكن لديه رخصة قيادة ــــ بحافلة مدرسية. والمثير في الأمر، أن والد كلارك ناشد حملة ترامب مراراً، للتوقف عن استغلال وفاة ابنه لنشر الكراهية.
الطامة الكبرى، أنه بالرغم من عدم صحة كل هذه المزاعم الظالمة والمهينة بحق الهايتيين، إلا أن ترامب، وعن سابق تصميم وإصرار، عاد واستخدمها في المناظرة الرئاسية التي جرت يوم الثلاثاء الفائت ــ على أكبر مسرح سياسي في موسم الحملات الانتخابية ــ حيث جدد الرئيس السابق ترديد أكاذيب مرشحه لمنصب نائب الرئيس، قائلاً: "في سبرينغفيلد، إنهم يأكلون الكلاب. الأشخاص الذين أتوا. إنهم يأكلون القطط. إنهم يأكلون، يأكلون الحيوانات الأليفة للأشخاص الذين يعيشون هناك."
ما هي أبعاد حملات التجني الجمهورية على المهاجرين؟
عملياً، ليست هذه المرة الأولى التي يثير فيها ترامب الكراهية تجاه الملونين، لتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية. فسجله حافل بالممارسات العنصرية. فقد سبق وأن دعا لسنوات إلى حظر دخول المسلمين إلى أمريكا، فضلاً عن تحريضه على الترحيل الجماعي لعائلاتهم، وهذا لا يقل خطورة، عن حملة التشهير التي يشنها الجمهوريون ضد مجتمع الهايتيين في سبرينغفيلد.
وتبعاً لذلك، فإن شيطنة ترامب لفئات كاملة من المهاجرين أمر في غاية الخطورة. ففي الماضي كان ترامب يوجه سهامه العنصرية إلى المهاجرين بشكل عام، مهما اختلفت جنسيتهم، غير أنه هذه المرة، ومن خلال هذا التشويه الجديد لصورة الهايتيين، يعمل ترامب ونائبه على إثارة الكراهية بحق مجموعة بعينها، تتألف من 15 ألف شخص في مكان واحد.
وعليه، فإن حملة التجريد من الإنسانية للهايتيين، قد تتحول إلى أعمال عنف جدية. وبالفعل، اضطرت مدينة سبرينغفيلد، يومي الخميس والجمعة الماضيين، إلى إغلاق مدارسها العامة ومبانيها البلدية، رداً على تهديدات بوجود قنابل. كما يتلقى مركز المجتمع الهايتي في المدينة مكالمات تهديد، بينما تحتفظ العائلات الهايتية بأطفالها في المنزل خوفاً على سلامتهم.
ترامب وفانس وغزوة العنصرية ضد الهايتيين
في الواقع، لا يمكن القول إن غزوة العنصرية والكراهية والتحريض لترامب وفانس لمنطقة واحدة، بأنها غير مدروسة، وقد جاءت نتيجة الانفعال والتهور، وهي صفات لطالما اشتهر بها الرئيس الأمريكي السابق. فترامب، يدلي عادةً بتصريحات ديماغوجية (أسلوب من الأساليب السياسية الذي يستخدم التلاعب بالعواطف والمشاعر الشعبية لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية) مستوحاة من حساباته السياسية، وليس من أي شيء شاهده للتو على قناة "فوكس نيوز" اليمينية المحافظة.
وبالمثل، فإن فانس لا يُعرف عنه بأنه متسرع أو مجازف أو مندفع. إذ لا يمكن له ــــ وهو الذي كان ترقى من أصوله المتواضعة إلى كلية الحقوق بجامعة ييل المشهورة ـــــ إلا أن يتمتع ببعض القدرة على تصفية أفكاره أو متابعة أهدافه بعقلانية. ففانس، القادر على تشبيه ترامب بالمخدرات الأفيونية في العام 2016، ثم لبث أن تحول لاحقاً إلى مدافع شرس عن تمرده بعد بضع سنوات فقط، عندما أصبح هذا الموقف مفيداً سياسياً، من الواضح أنه على استعداد لفعل أي شيء تقريباً في محاولة محسوبة للوصول إلى السلطة.
من هنا، لم يقم فانس بتشويه سمعة المجتمع الهايتي في سبرينغفيلد مرة واحدة فقط. غير أنه اختار مضاعفة هذا التهشيم لصورة هؤلاء الناس ـــ المستضعفين الهاربين من حجيم الموت والفقر والجوع في بلادهم ـــ ثلاث مرات، وكررها مرة أخرى في منشور على منصة X صباح أمس الجمعة، حيث ألقى باللوم على المهاجرين الهايتيين في جلب "الأمراض المعدية" إلى أوهايو (دون تقديم أي دليل لإثبات هذا المجاز الخالد).
وبناء على ذلك، يطرح العديد من المراقبين والمحللين للسباق الرئاسي في الولايات المتحدة السؤال التالي: لماذا يختار القائمون على حملة ترامب التي لديها حوافز قوية لإظهار الاعتدال الخطابي وطمأنة الناخبين المتأرجحين، استعمال الألفاظ المُحمّلة بالكراهية والعنصرية ضد مجتمع صغير، مع علمهم أن كلماتهم أسفرت عن تهديدات بوجود قنابل؟
أسباب إصرار حملة ترامب وفانس على التحريض ضد المهاجرين وتحديداً الهايتيين
عملياً، يتمتع الجمهوريون بميزة كبيرة فيما يتعلق بقضية الهجرة. ففي أحدث استطلاع للرأي أجرته صحيفة نيويورك تايمز مؤخراً، بالتعاون مع كلية سيينا للناخبين المحتملين، فضّل الناخبون ترامب على كامالا هاريس، فيما يتعلق بالهجرة بهامش بلغ 53 إلى 43%. وقد توافقت هذه النتيجة مع استطلاعات الرأي الوطنية والأخرى في الولايات المتحدة.
وبالمثل، تظهر الدراسات الاستقصائية لآراء الأمريكيين، قصة مشابهة بشأن سياسة الهجرة. حيث كشف استطلاع أجرته مؤسسة غالوب (لاستطلاعات الرأي)، ولأول مرة منذ 20 عاماً، عن أن غالبية الأمريكيين يريدون تقليل الهجرة، بينما قال 16% فقط إنهم يحبذون زيادتها. كما وجد استطلاع حديث أجراه موقع Axios/The Harris Poll ، أن أغلبية الناخبين أعربوا عن تأييدهم للترحيل الجماعي للمهاجرين غير الشرعيين.
وبناء على ذلك، إذا اختار الناخبون دعم المرشح الذي يمثل وجهة نظرهم بشأن الهجرة على أفضل وجه، فسوف يفوز ترامب بأغلبية ساحقة. ويترتب على ذلك أنه كلما زاد تفكير الناخبين في الهجرة بحلول يوم الانتخابات، كلما كان وضع ترامب وفانس أفضل.
النقطة الأهم، ولأن سلوك ترامب وفانس بغيض للغاية ويتعارض مع الكرامة الإنسانية والقيم الليبرالية (المزعومة في أمريكا)، فقد استفز السياسيين والمعلقين الديمقراطيين، الذين أعربوا عن تعاطفهم مع المهاجرين واهتمامهم برفاهيتهم. وهذا بدوره يمكن أن يدفع الناخب المتأرجح نحو اليمين، حتى لو وجدوا أن سلوك فانس مثير للاشمئزاز. ويمكن لهذا الناخب أيضاً، أن لا يوافق على نكتة قُطة فانس الخبيثة، لكن قد يستنتج من النقاش الدائر حوله، أن الجمهوريين هم الحزب الأكثر صرامة فيما يتعلق بالهجرة.
في المحصّلة
إذا كانت قراءة الجمهوريين صحيحة، ويراهنون على أن الناخبين يبحثون عن شخص يمكنه إنجاز مهمة قبيحة وفظيعة كقضية المهاجرين، فحتماً أنهم لن يجدوا أفضل من ترامب لإنجاز هذه المهمة القذرة (بغض النظر عن مدى إمكانية تحقيقها)، حتى لو كانت عاراً على الإنسانية، وهي الصفة التي يفتقر إليها جميع الرؤساء الأمريكيين وليس ترامب وحده.