د. علي دربج – خاص الأفضل نيوز
لا تبدو ألمانيا في أحسن أحوالها هذه الأيام. فهذه الجمهورية، التي لطالما نُظر إليها كمعجزةٍ اقتصاديةٍ بعد الحرب العالمية الثانية، تواجه اليوم تحدياتٍ غير مسبوقةٍ على كافة الصُّعد، السياسية والاقتصادية والانتخابية.
وتبعًا لذلك، ينتشر القلق في جميع أنحاء ألمانيا، وسط الحديث عن أن البلاد باتت تُوصَف في الداخل والخارج بـ"رجل أوروبا المريض". وفي حين يثق عُشر الألمان بمستقبلهم، فإن مزاج النسبة الأكبر من السكان مَشحونٌ بالخوف، وانعدام الثقة، والإرهاق، والكآبة.
الألمان بين اليأس وانعدام الثقة بالدولة
عند البحث عن جذور الإحباط لدى الألمان، نجد قائمةً طويلةً تبدأ بالركود الاقتصادي الذي يُهيمن على البلاد منذ خمس سنوات، في ظلّ تراجع التصنيع المتسارع، مرورًا بقرع طبول الهجمات الإرهابية، وانتهاءً بالغضب من موجة الهجرة المستمرة.
أمّا السبب الأهم، فيرتبط بالحرب الروسية في أوكرانيا، التي عمّقت المخاوف بشأن الأمن وارتفاع أسعار الطاقة الباهظة.
وبعيدًا عن جميع الصور النمطية الإيجابية عن ألمانيا، مثل كفاءتها الأسطورية، وريادتها في التصنيع، وجودة منتجاتها، وتميّز قطاعاتها الإنتاجية بأخلاقيات العمل، فضلاً عن براعتها الهندسية، فإن المشهد في هذه الجمهورية متخلّفٌ كُليًّا هذه الأيام. فخدمات الإنترنت تنقطع بين الحين والآخر، فيما تتأخر القطارات باستمرار، ويتغيب العمال بسبب المرض بمعدلٍ يَفوق نظراءهم الأوروبيين بمرتين، إلى حدٍّ أن مجلة "ذي إيكونوميست" الإنجليزية وصفت الألمان بأنهم "أبطال العالم في استدعاء المرض".
والمفاجأة الكبرى، أن 80% من الوكالات الحكومية والشركات الخاصة لا تزال تستخدم آلات الفاكس، وكذلك يفعل الجيش، بحسب موقع "دويتشه فيله" الألماني.
وبناءً على ذلك، غذّت هذه الأخبار السيئة الشعور بالتراجع الوطني، وفاقمت الخلل الوظيفي قبل الانتخابات الفيدرالية المقرّر إجراؤها في 23 فبراير الحالي، والتي سيُحدِّد التصويت فيها مَن سيخلف الحكومة الائتلافية غير الفعالة، التي يقودها المستشار أولاف شولتز، والمكروهة على نطاقٍ واسع، باعتبارها مسؤولةً عن تردّي الأوضاع الاقتصادية والركود في ألمانيا.
المرشحون لمنصب المستشار ومغازلة "حزب البديل" المتطرف
في الحقيقة، تشكّل الانتخابات الألمانية لحظةً فاصلةً في تاريخ البلاد، إذ قد تكون الفرصة الأخيرة والأفضل للهروب من الاحتمال المخيف المتمثّل في انزلاق ألمانيا مرّةً أخرى إلى هوّة القومية السامة.
فالتاريخ يعيد نفسه أحيانًا. فالقوميين الألمان الجُددّ – المتمثلون بـ"حزب البديل من أجل ألمانيا" الصاعد بقوة – ليسوا بلطجيةً (على الأقلّ في نظر مواطنيهم) يلبسون أحذيةً عسكريةً ويحلمون بإخضاع أوروبا لإملاءات برلين، لكنهم يتعاطفون مع روسيا، ويكرهون الوحدة الأوروبية، ويعارضون بشدّةٍ الهجرة.
وانطلاقًا من هذه النقطة، وبعد مرور قرنٍ من الزمن على إصدار الزعيم النازي أدولف هتلر كتابه الشهير "كفاحي"، قلّل قادة بارزون في "حزب البديل" من فظائع النازية، وأعادوا استخدام الاستعارات والرموز والشعارات النازية.
ومن بين هؤلاء، أليس فايدل، زعيمة الحزب والمرشحة لمنصب المستشارة، التي حظيت بإعجاب حشود "حزب البديل" التي كانت تهتف في إحدى التجمعات الانتخابية بعبارة "أليس من أجل ألمانيا!"، وهو تحويرٌ واضحٌ للشعار النازي "الجميع من أجل ألمانيا" المحظور بموجب القانون.
وحتى مع قيام الأحزاب الأوروبية اليمينية الأخرى بتخفيف خطابها وسياساتها لكسب أصوات الغالبية العظمى من المواطنين، أصرَّ "حزب البديل" على تطرّفه. لذا، وبعد أن رفض مسؤولٌ بارزٌ في الحزب وصف أعضاء "قوات الأمن الخاصة النازية SS" بالمجرمين، تمّ طرد "حزب البديل" العام الماضي من كتلة الأحزاب اليمينية الأخرى في البرلمان الأوروبي في بروكسل.
ميرتس: بين التشدد في الهجرة والتعاون مع اليمين المتطرف
حاليًا، وقبل أسابيع من الانتخابات، تلقّت فايدل وحزبها هديتين ثمينتين من جهتين غير متوقعتين.
• الأولى، جاءت من إيلون ماسك، ذلك المبدع في إثارة الفوضى عالميًا. ففي ديسمبر الماضي، قام أغنى رجلٍ في العالم فجأةً برفع راية "حزب البديل" (AfD)، مشيدًا به أمام 212 مليون متابع على منصة X، ثم استضاف فايدل في مقابلةٍ مباشرةٍ على المنصة، اتسمت بتناقضاتٍ وحقائق مشوّهة.
• أما الهدية الثانية، فأتت من فريدريش ميرتس، زعيم "الحزب المسيحي الديمقراطي"، المحافظ الرئيسي في ألمانيا، والذي يُعتبر الشخص الأوفر حظًّا ليُصبح المستشار المقبل بعد الانتخابات.
ولهذه الغاية، وردًّا على أحدث هجومٍ إرهابيٍّ – حيث يُتّهم طالبُ لجوءٍ أفغانيٌّ بطعنِ طفلٍ صغيرٍ ورجلٍ حتى الموت في بافاريا – أطلق ميرتس مجموعةً من التشريعات المتعلقة بالهجرة، تضمنت مشاريع قوانين لتشديد الحدود وإعادة طالبي اللجوء.
وعندما رفضت الأحزاب التقليدية الأخرى دعم هذه القوانين، لجأ ميرتس – بهدف حشد التأييد لسياساته تلك – إلى كسر أحد المحرّمات السياسية في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، عبر التعاون مع اليمين المتطرف داخل البرلمان الاتحادي.
ما هي حظوظ ميرتس للفوز بمنصب المستشار الألماني؟
بصفته المستشار المحتمل القادم، سيكون ميرتس، البالغ من العمر 69 عامًا، مدركًا تمامًا لحجم التحديات. ومع ذلك، فمن غير المرجّح أن يكون المنقذ، نظرًا لافتقاره إلى أي خبرةٍ حكوميةٍ خارج نطاق عمله في البرلمانين الألماني والأوروبي.
ضع في اعتبارك، ان ميرتس محامٍ ثريٌّ متخصصٌ في شؤون الشركات، وغالبًا ما يُوصف بأنه سريع الغضب ومندفع، لكنه سيحتاج إلى إدارة مفاوضاتٍ دقيقةٍ للحفاظ على تحالفٍ هشٍّ بين حزبه المسيحي الديمقراطي (يمين الوسط) والحزب الاشتراكي الديمقراطي (يسار الوسط)، وربما حزب الخضر.
ومع ذلك، فإن توجهاته السياسية تبدو ذكية، فهي تشمل خفض الضرائب، التي تُعد من بين الأعلى في أوروبا، إضافةً إلى تقليص البيروقراطية، والاستثمار في المدارس والبنية التحتية للنقل والرقمنة، التي تعاني من نقص التمويل والتدهور.
في المحصّلة:
إن تمسّك القادة الألمان بالممارسات التقليدية ساهم في صعود "حزب البديل من أجل ألمانيا" (AfD)، إلى جانب الغضب من قضايا الهجرة والإرهاب، والسياسات الفوقية القادمة من برلين. فكل هذه المشاكل تنتظر الحكومة القادمة.
من هنا، سيواجه ميرتس، السياسي غير المُجرَّب، أصعب اختبارٍ لألمانيا منذ أجيال، إذ إن مستقبل بلاده، ومستقبل أوروبا، على المحك.