ربى اليوسف - خاصّ الأفضل نيوز
ربما غنت لها، يا قدس يا زهرة المدائن، وربما غنت له، "وطني .. يا جبل الغيم الأزرق وطني .. يا قمر النّدي والزّنبق"، وربما غنينا لها في الباصات والسهول والساحات و الحقول، وتحت الزيتونة.. في أعراس "الضيعة"، فوق شجر السفرجل، وفي كتب الدراسة، و"مكاتيب" العشاق، في السيارة و"الأسونسير" وفي عجقة بيروت ونوافذ بناياتها الخشبية المفتوحة على غمازات الصبايا وهي تناطح حواجب الرجال المعقودة بـ"الحيط"-آخر "حيط"، ربما انتظرنا معها "تحت الشتي" و"ما حدا نطرنا".
كبرنا ونحن نبحث عن "شاديها الموعود" كمن يبحث عن وطنه -الوطن الموعود، كبرنا وكان صوتها لنا المسيح له المجد، مُكَرَّس للخدمة والفداء.. يسحق شياطين الأرض ببراءته وغنجه ودلعه وجبروته وتفرده وتوحده كإله/ فخافوا أن يقولوا إلهة .. قالوا فيروز الوالهة، فهالها الضوء وتناثر تيجانًا من النور حول رأسها.. فكانت مسقط رأسنا كلما هبّت علينا لمسة حزن، وشيء من النبوات كلما زاد الكفر في العالم.
هكذا وبوجهها الهادئ، كسهل البقاع.. الحزين كقرية تتعرض للقصف، كسحمر التي تنام على كتف الوادي ويدللها قمر مشغرة من فوق.. كشمس، كدوار.. شمس، وهي التي غنت يا جارة الوادي.. ابنة الشوف التي يضحك لها الحي القديم في زقاق البلاط.. لطلتها المسكونة بالملائكة.. لمزامير داوود في صوتها.. لصوتها يطرق مسامعنا كل صباح فنفتح له دون استئذان.
نشرٌع له النوافذ، والستائر الشفافة من "البالة" أو "البالي" لهجة أهل القرى"، وبعدك على "بالي".. للحب المستحيل، والوطن المستحيل، والأمنيات المستحيلة.. نهاد حداد أو فيروز الشهيرة كما هي نحن دون زيادة أو نقصان.. أنا وأنت، بأفراحنا وأحزاننا.. بعيوننا الهاربة من حرب إلى حرب، من حاجز إلى حاجز ومن موت إلى موت.
فكنا نهرب من الموت إليها، ومن الليل إليها، ومن الظلم إليها، ومن الحياة، فكانت حياة أخرى.. ووجهًا آخر للحياة.. للماء للنهر، لغسيل الأواني، الراديو الذي لا نملكه.. فتملكتنا وتملكناها.. ورحنا نزرع الحمضيات على الشرفات والعنب على السطوح، ونخبّئ دمنا في فراش العروس، ثم في اليوم التالي نمد دمنا على طول الأرض، ونتمدد ونمتد كمن (سَبَقَ فَرَأَى)، كانت قد سبقتنا إلى السماء.. فرأت ما لم نر وسمعت ما لم نسمع.. فغنّت ما لا يغنّى دون معونة من الله.. وأعطى العطايا لشعبه.
أُعطينا صوتها،
فركضنا إلى التلال، وأقمنا حلقات "الدبكة"، وتناسينا هدير البوسطة في عين الرمانة.. بصوتها العابر للطوائف الثلاث، كأعظم نذر... كوجهة في الجنوب كلما صدح صوت الأجراس في كنيسة يارون .. وطرقات يارين .. مع كل زخة رصاص في الخيام وكفركلا وطيرحرفا.. وصلاة يقيمها العابرون في مقام شمعون الصفا.
فنصفو ونعلو مقامات أهل الأرض.. نربط جدائل الصبايا على النهر وتظهر لنا كما يسوع للقديسة مريم المجدلية في لوحة الفنان ألكسندر إيفانوف.. فتشدنا مرة أخرى إلى البيت.. كأن صوتها البيت و(يا بيوت الْـ بيحبّونا، يا تراب اللّي سَبَقونا، يا زغيَّر ووِسع الدّني .. يا وطني).. كأن صوتها الأمان الذي فقدناه.. والقديس الذي تبعناه وراء الغيم، الذي شكلناه بأصابعنا على السطح، فكم مرة شكلنا الغيم؟.
وأدرنا الرحى في القرى.. وجرشنا القمح، ولبسنا جلده، حتى صرنا منه.. من الأرض وللأرض.. فالنور للنور (لأَنْ هكَذَا أَوْصَانَا الرَّبُّ: قَدْ أَقَمْتُكَ نُورًا لِلأُمَمِ، لِتَكُونَ أَنْتَ خَلاَصًا إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ)، كما جاء في سفر الأعمال.
فكانت خلاصنا والحب الذي انتظرناه (وبيعز علي غني يا حبيبي.. ولأول مرة ما بنكون سوا)، فمشينا معها على طريق الآلام، في حارة النصارى، في البلدة القديمة.. نذرنا معها شمعة في دير مار كرالامبوس ووضعنا وردة عند قبر مريم.
لفلسطين.. للبنان.. للإنسان الذي غنّت له فلم تجده لربما سوى في خيالها... فاختالت على المسرح.. وكانت "البنت "الكربوجة" التي تركض على الخشـبة وتشير للعالم بيديها المنزلتين كنبع ماء جالوت بين نورس وقومية، فقمنا لرهبانيتها من السيسترسية.. فلبسنا رداءها وحملناه إلى آخر الجبل وكان أبيض -وأحيانًا حنطيًا مثل القمح والشعير وأشجار الزيتون والدبس والماعز وخلايا النحل.
هناك في علار في خربة الشيخ هوبين.. أدرنا صوتها على المسجلة وقلنا لها: "تعيدي بالعز ستنا فيروز".. فلا تهدم "عقور" مرة أخرى ولا يشتت/ يتشتت أبناؤها العرب.. لفيروز
كل الصباحات
وحجار حفافيك
وجوه جدودي الْـ عمَّروا
وعاشوا فيك
من ميّة سنِة
من ألف سنِة
من أوّل الدّني
يا وطني
وبه رواق من أربعة وخمسين عمودًا يعلوها إفريز مزخرف تزينه رؤوس الثيران والأسود في بعلبك، وثلاث درجات تصعد بك إلى الهيكل على مدارج العظمة في صوتها الميزو / سوبرا/ نو/.