د.علي دربج - خاص الأفضل نيوز
في خضم التوترات والأزمات التي يشهدها العديد من مناطق العالم، بدءًا من غزة ومرورًا بروسيا وأوكرانيا، وانتهاءً بالحرب التجارية التي يشنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على بعض دول أمريكا الجنوبية والشمالية، وحدها بلدان الخليج العربي تنعم بالاستقرار السياسي والأمني، وتتطلع – متسلحةً بقوتها الناعمة الاقتصادية – إلى تنويع علاقاتها الاستثمارية والتجارية على امتداد المساحة الجغرافية للقارات الخمس، بحيث وصلت إلى منطقة جنوب القوقاز، لتصبح الأخيرة أقرب وبشكل متزايد من منطقة الشرق الأوسط.
وانطلاقًا مما تقدَّم، أكَّد تطوُّر العلاقة بين جورجيا وأذربيجان من جهة، ومجلس التعاون الخليجي من ناحيةٍ ثانية، على التحوُّل الاستراتيجي لمجموعة الدول العربية هذه نحو أوراسيا، خصوصًا أنها مدفوعة بالاستثمارات وفرص التجارة ومشاريع الربط التي تتماشى مع أهدافٍ طويلة الأمد لتنويع الاقتصاد في تلك المنطقة من العالم.
استثمارات خليجية في البنية التحتية الجورجية
في 26 يناير/كانون الثاني الماضي، زار رئيس الوزراء الجورجي إيراكلي كوباخيدزه دولة الإمارات العربية المتحدة، وعقد اجتماعاتٍ رفيعة المستوى مع رئيسها محمد بن زايد آل نهيان ووزراء الدولة. وقد هدفت الزيارة بشكلٍ أساسي إلى تعزيز الروابط الاقتصادية بين البلدين، من خلال زيادة حجم التبادل التجاري الثنائي، ورفع أرقام استثمارات الإمارات في جورجيا. كما ناقش الطرفان الافتتاح القادم لميناء تبليسي الجاف، وهو استثمارٌ تقوم به مجموعة موانئ أبوظبي.
إلى جانب ذلك، تسلِّط الزيارة الضوء على العلاقات المتزايدة بين مجلس التعاون الخليجي والجنوب القوقازي، إذ تُعد جورجيا وأذربيجان مركزًا لاستثمارات الدول العربية الثرية.
ليس هذا فحسب، بل يعود الاهتمام الذي حظي به الجنوب القوقازي من قبل دول مجلس التعاون الخليجي إلى التحولات الجيوسياسية التي طرأت على المنطقة، خصوصًا بعد أن غيَّرت الحرب في أوكرانيا مسار الاتصال الأوراسي، إذ بات يُنظر إلى الطريق الأوراسي الشمالي، الذي كان يعبر في الغالب قلب روسيا لربط الصين بالاتحاد الأوروبي، على أنه أقل موثوقية بشكلٍ متزايد.
وعليه، ومع انخفاض حجم العبور على هذا الطريق بشكلٍ حاد في العام الأول من الحرب الأوكرانية، اضطرت كلٌّ من بروكسل وبكين للبحث عن ممراتٍ بديلة، فوقع الاختيار على الطريق الذي يمر عبر الجنوب القوقازي ويُعرف باسم "الممر الأوسط" (يعبر من تركيا إلى منطقة القوقاز، ومنها يعبُر بحر قزوين إلى تركمانستان وكازاخستان وصولًا إلى الصين).
وفي حين ينصبُّ الاهتمام على دور بكين والاتحاد الأوروبي في توسيع هذا الممر عبر جورجيا وأذربيجان، برز مجلس التعاون الخليجي كطرفٍ فاعلٍ وقويٍّ ومنافسٍ للقيام بهذا الدور، بحسب الخبراء الغربيين.
إشارةً إلى أنَّ أذربيجان تُعتبر أيضًا حلقةَ وصلٍ في ممرِّ النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC)، مما يُتيح لدول مجلس التعاون الخليجي إمكانية الوصول إلى السوق الروسية.
وبناءً على ذلك، أظهرت دول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصًا الإمارات، اهتمامًا كبيرًا بالبنية التحتية الاستراتيجية في جورجيا، بما في ذلك موانئها وسككها الحديدية.
فعلى سبيل المثال، قامت هيئة استثمار رأس الخيمة الإماراتية بشراء ميناء بوتي على البحر الأسود في جورجيا في العام 2008. وفي عام 2024، استحوذت مجموعة موانئ أبوظبي على حصةٍ بلغت نسبتها 60% في ميناء تبليسي الجاف الرئيسي في أذربيجان. من هنا، يُشير كلا الاستثمارين إلى الاهتمام المتزايد لدولة الإمارات بإمكانات النقل في الممر الأوسط.
بموازاة ذلك، تقوم "شركة مصدر" الإماراتية للطاقة المتجددة ببناء أكبر محطةٍ للطاقة الشمسية في جورجيا، في منطقة جارداباني، بهدف تنويع مصادر الطاقة في جورجيا وتقليل الاعتماد على واردات الطاقة من الخارج.
وفي شهر كانون الثاني الفائت، جرى توقيع مذكرة تعاون، تعهدت بموجبها شركة إعمار العقارية (إحدى شركات التطوير العقاري الكبرى في الإمارات) باستثمار 6 مليارات دولار، وهو ما قد يُصبح أكبر استثمار في تاريخ جورجيا، ودائمة على ذمة موقع الخليج الاوراسي EurAsia Gulf
الإمارات أكبر شريك تجاري لجورجيا
تُعد الإمارات أكبر شريكٍ تجاري عربي لجورجيا، إذ تمثل 63% من تجارة جورجيا مع العالم العربي، استناد لموقع وزارة الخارجية الاماراتية. إضافةً إلى ذلك، أدت اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة المُوقعة في أكتوبر 2023 إلى تحرير التجارة بين البلدين، وقد دخلت حيز التنفيذ في عام 2024، مما مكَّن 97.5% من البضائع الجورجية من الدخول إلى الإمارات معفاةً من الرسوم الجمركية.
ووفقًا لوكالة أنباء الإمارات (وام)، من المتوقع أن تُسهم هذه التبادلات التجارية والاقتصادية بنحو 4 مليارات دولار في الناتج المحلي الإجمالي لدولة الإمارات بحلول عام 2031.
وعلى المُقلب الآخر، عزَّزت جورجيا علاقاتها الدبلوماسية مع دول مجلس التعاون الخليجي من خلال السفارات ومجالس التعاون، وأبرزها مجلس التنسيق الحكومي الدولي مع السعودية، الذي تم إنشاؤه في أوائل عام 2024. أما الغاية منه، فهي تقوية أسس التعاون السياسي والاقتصادي.
شراكة خليجية – أذربيجانية في مجالات الطاقة والاتصالات
عمليًا، لعب قطاع النفط والغاز دورًا رئيسيًا في تطوير العلاقات الأذربيجانية مع مجلس التعاون الخليجي. وتبعًا لذلك، استحوذت شركة بترول أبوظبي الوطنية على حصةٍ تُقدَّر بـ30% في حقل أبشيرون للغاز الأذربيجاني في بحر قزوين.
زد على ذلك، هناك اتجاهٌ متزايدٌ لتوسيع التعاون في مجال الطاقة الخضراء، إذ تستثمر شركة "أكوا باور" السعودية 300 مليون دولار في محطةٍ لتوليد الطاقة من الرياح في أذربيجان (استنادا لموقع الرئاسة الاذربيجانية).
كذلك، استثمرت باكو وأبوظبي في مشاريع الطاقة الشمسية، حيث تم بناء محطة "غاراداغ" للطاقة الشمسية، التي تم الكشف عنها في أكتوبر 2024.
وبالمثل، وبحسب منصة "القابضة" الإماراتية، تم إنشاء مشروعٍ مشتركٍ بقيمة مليار دولار بين شركتي "أبوظبي التنموية القابضة" و"أذربيجان للاستثمار القابضة". وفي سياقٍ متصل، تم إحراز تقدمٍ في البنية التحتية الرقمية والاتصال بين دولة الإمارات وأذربيجان. ولهذه الغاية، وقَّعت أبوظبي وباكو عدة وثائق بشأن تعزيز البنية التحتية الرقمية، مع التركيز على تطوير مراكز البيانات.
في المُحصّلة:
بالنسبة لكلٍّ من جورجيا وأذربيجان، تمثِّل العلاقات الوثيقة مع دول مجلس التعاون الخليجي فرصةً لتعزيز موقفهما الاقتصادي والتوافق مع ما يمكن تسميته بالسياسة الخارجية متعددة الاتجاهات .
وفي عصر المنافسة الشديدة وصعود العديد من الجهات الفاعلة الرئيسية، يُنظر إلى مجلس التعاون الخليجي باعتباره أحد المراكز الجيوسياسية الرئيسية التي تُمارس نفوذها عبر جزءٍ كبيرٍ من أوراسيا والشرق الأوسط وجنوب القوقاز بشكلٍ متزايد.
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ علاقاتِ تبليسي المُوثَّقةَ مع مجلس التعاون الخليجي تُعدُّ أداةً خارجيةً قيِّمةً لموازنة التهديد الروسي. بالمقابل، ترى أذربيجان أنَّ العلاقات مع مجلس التعاون توفِّر مجالًا لتحقيق التوازن بين الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية.