د. علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
وكأنَّ التاريخ يعيد نفسه. فألمانيا شرَّعت من جديد أبوابها للتطرّف عندما حقَّق حزب "البديل من أجل ألمانيا" الشعبوي، فوزًا تاريخيًّا في الانتخابات التشريعية التي جرت أمس الأحد. والمفاجأة الكبرى، أنه لم يكتفِ بذلك، بل هو على وشك أن يصبح ثاني أكبر تجمُّع برلمانيٍّ في البوندستاغ، مجلس النواب الاتحادي، وهي بالمناسبة أفضل نتيجة وصل إليها حزب يميني متطرِّف ألمانيٌّ منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية.
ليس هذا فحسب، ضع في اعتبارك أنَّ هذا الانتصار كان يُعتبر سابقًا غيرَ قابلٍ للتصديق في أمَّة تأثَّرت بشكل عميق بالصدمات الناتجة عن النازية وارتكاباتها التي جلبت العار لبرلين طيلة عقود. أما اللافت، فهو ترويج بعض القيادات الامريكية ومنهم إيلون ماسك لحزب البديل.
حزب البديل والنجاح بمضاعفة حصته البرلمانية
عمليًّا، يُعَدُّ نجاح حزب البديل من علامات العصر، في ظل انتشار ظاهرة الأحزاب اليمينية المتطرِّفة في جميع أنحاء أوروبا، والتي كانت على الهامش ذات يوم، لكنها حاليًّا تُعتبر التيار السائد في القارة العجوز، أو وصلت إلى السلطة أو اقتربت منها بسبب المخاوف الشعبية بشأن الهجرة، والهوية الثقافية، والمعتقدات السياسية والاقتصادية المتآكلة للجيل الماضي. وقد رأينا ذلك في بعض البلدان، حيث انهارت "المحظورات الأمنية" التي منعت أحزاب اليمين المتطرِّف من تشكيل الائتلافات البرلمانية الحاكمة.
من هنا، ضاعَف حزب البديل حصَّته من الأصوات، حيث فاز بحوالي 20 بالمئة من الأصوات، مقارنةً بعام 2021. وقد وضعته هذه النتائج خلف حزب الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط)، بقيادة فريدريش ميرتس، لكنه بالمقابل تقدَّم على الديمقراطيين الاشتراكيين (يسار الوسط) بزعامة المستشار أولاف شولتس.
ومع ذلك، من المتوقع أن يواجه ميرتس صعوبات عند تشكيل ائتلافٍ حاكم، ومن غير المستبعد أن تتفاقم هذه المشكلة وتصبح أكثر تعقيدًا بسبب الوجود الضخم لحزب البديل، الذي ظهر قبل 12 عامًا فقط.
وتعقيبًا على ذلك، قالت أليس فايدل (إحدى قادة حزب البديل من أجل ألمانيا)، بلهجةٍ تغلب عليها نشوة الانتصار، إن فوز ميرتس سيكون "باهظ الثمن" إذا اضطرَّ إلى التحالف مع الديمقراطيين الاشتراكيين أو حزب الخضر. كما سخرت من الديمقراطيين المسيحيين لمحاولتهم تقليد بيان حزب البديل، وتوقَّعت أنَّ حزبها سيكون في انتظار انهيار "حكومة ميرتس غير المستقرة، التي لن تستمرَّ للسنوات الأربع المقبلة".
الجدير بالذكر أنَّ نسبة المشاركة في الانتخابات كانت مرتفعة، وهذا يعود إلى خوف الناخبين من الركود الاقتصادي، فضلًا عن قلقهم المتزايد بشأن مكانة ألمانيا في العالم. ومن المعروف أنَّ هذه العوامل كانت سببًا في انهيار ما يُوصف بـ"ائتلاف إشارة المرور" المنتهي ولايته — وهو مزيج من الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة شولتس، وحزب الخضر، والديمقراطيين الأحرار النيوليبراليين — تحت وطأة تناقضاته السياسية، ولذلك تراجعت هذه الأحزاب الثلاثة في صناديق الاقتراع.
من هنا، تبدو العودة إلى "ائتلاف كبير" بين يمين ويسار الوسط الخيار الأكثر وضوحًا بالنسبة لميرتس، لكنها لن تُلهم العديد من الألمان الساخطين، خصوصًا الناخبين الشباب، الذين أدلوا بأصواتهم بأعداد كبيرة لأحزاب أقصى اليمين وأقصى اليسار.
تحديات الحكومة الألمانية المقبلة
من المتوقع أن تواجه الحكومة المقبلة العديد من التحديات الأكثر إلحاحًا، وفي مقدِّمتها تعزيز اقتصادها الراكد، وتطوير بنيتها التحتية الضعيفة، والأهم من ذلك إعادة تقييم دورها في النظام العالمي المتغيِّر. هذا إلى جانب الهجرة، التي برزت أيضًا كقضية رئيسية خلال الحملة الانتخابية، بعدما وضعها حزب البديل على رأس أولوياته، ودافع عن الدعوات إلى "إعادة" المهاجرين المسلمين وطالبي اللجوء إلى أوطانهم.
وما زاد الطين بلَّة بالنسبة للمستشار ميرتس والقيادات الغربية، أنَّ أحد استطلاعات الرأي كشف أنَّ 12 % فقط من العمال الألمان أدلوا بأصواتهم للحزب الديمقراطي الاجتماعي — الحزب التقليدي للعمال في البلاد — في حين قد يكون ما يقارب 40 بالمئة من العمال قد صوَّتوا لصالح حزب البديل، الذي استغلَّ قضايا "الحروب الثقافية"، مصوِّرًا الأحزاب التقليدية اليسارية على أنها خائنةٌ للأمة وخاضعةٌ لأجنداتٍ نخبوية كوزموبوليتانية — وهو نمطٌ مألوفٌ في أماكن أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة.
وتعليقًا على فوز حزب البديل، أعرب جوزيف شوستر، رئيس المجلس المركزي لليهود، أكبر منظمة يهودية في ألمانيا، عن استيائه لصحيفة دي فيلت. وقال: "يجب أن يقلقنا جميعًا أنَّ خُمس الناخبين الألمان يمنحون أصواتهم لحزبٍ هو، على الأقل جزئيًّا، يمينيٌّ متطرِّف، يسعى علنًا إلى الارتباط اللغويِّ والأيديولوجيِّ بالراديكالية اليمينية والنازية الجديدة، ويستغلُّ مخاوف الناس."
إشارة إلى أنَّ حزب البديل، ليس الوحيد المعادي للمؤسسة الحاكمة، فقد شكَّل حزب اليسار المتشدِّد مفاجأة الانتخابات مع ارتفاع ملحوظ في الدعم. فوفقًا لبعض التقديرات، أدلى واحدٌ من كلِّ أربعة ناخبين ألمان شبابٍ بصوته لصالح فصيلٍ نشأ جزئيًّا من الحزب الشيوعي المنحل، الذي كان يسيطر على ألمانيا الشرقية سابقًا.
ترويج أمريكي لحزب البديل
صحيح أنه، وبمجرد أن بدا فوز ميرتس مؤكَّدًا يوم الأحد، علَّق الرئيس دونالد ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي على الامر، وأشاد بـ"يوم عظيم لألمانيا"، وشبَّه النتيجة بفوزه في نوفمبر.
لكن نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس، كان قد تجنَّب في وقت سابق من هذا الشهر مقابلة شولتس، غير أنه، زار الزعيمة المتطرِّفة فايدل في ميونيخ، وهو ما اعتُبر تأييدًا فعليًّا لروح الأيديولوجيا المتقاربة.
بالمقابل، لم يتمكَّن ملياردير التكنولوجيا الأمريكي والمستفزُّ اليمينيُّ المتطرِّف إيلون ماسك من كبح مشاعره، فدافع بصوت عالٍ عن حزب البديل من أجل ألمانيا قبل الانتخابات.
بدورهم، أعرب السياسيون الألمان من مختلف الأطياف السياسية عن انزعاجهم من احتضان إدارة ترامب لليمين المتطرِّف، على الرغم من أنَّ مناورة ماسك لم يكن لها على ما يبدو تأثيرٌ كبيرٌ على نتيجة انتخابات يوم الأحد.
في المحصلة:
بالرغم من النتائج المذهلة التي حصدها حزب البديل، غير أنه في حالة ألمانيا، يبقى ممنوعًا عليه الدخول في الحكومات الوطنية بسبب "جدار الحديد" السياسي الذي أقيم ضدَّه من قِبَل الأحزاب الرئيسية الأخرى في البلاد، التي تعهَّدت بالفعل بإبقائه خارج السلطة. لكن يبدو أنَّ هذه الانتخابات ستدفعه ليصبح أكبر قوة معارضة في البلاد.