ميرنا صابر – خاصّ الأفضل نيوز
ليست "الفجوة الماليّة" في لبنان رقماً ثابتاً بقدر ما هي ساعة تُدقّ منذ 2019 وتضيف كلفةً جديدة كل يوم تأخير.
في الساعات الأربع والعشرين الماضية عاد هذا المصطلح إلى واجهة النقاش، لا كعنوانٍ تقنيّ في تقارير مصرفيّة، بل كمفترق طريق سياسي–اقتصادي: مشروع قانون يُفترض أن يضع للمرة الأولى مساراً "مُقنَّناً" لتوزيع الخسائر وإعادة جزء من الودائع، مقابل اعتراض صريح من المصارف وتحذيرات واسعة من ضبابيّة الضمانات وأثمانها على المودعين.
المشهد الأوضح أنّ الحكومة تحاول تحويل فجوةٍ متراكمة إلى برنامج زمني للدفع، عبر آليّتين مختلفتين: دفعات تدريجيّة لصغار المودعين، وأداة ماليّة طويلة الأجل لكبارهم. وفق ما نُشر عن النقاشات الجارية، الاتجاه المطروح يُقسّم الودائع بحسب الحجم، بحيث يحصل من يملكون أقل من 100 ألف دولار على استردادٍ تدريجي خلال أربع سنوات، فيما تُعوَّض الودائع الأكبر عبر "سندات مدعومة بأصول" يصدرها مصرف لبنان وتُسدَّد على مدى 10 إلى 20 سنة تبعاً لحجم الحساب. هذه ليست تفصيلة تقنيّة، إنها تغيير في تعريف الوديعة نفسها من حقّ فوري على مصرف إلى ورقة ماليّة رهينة عمرها، وسوقها، وقدرة الجهة المُصدِرة على توليد إيرادات من أصولها.
هنا تحديداً تظهر زاوية جديدة غالباً ما تُهمَل في النقاش اللبناني: "الفجوة" ليست فقط فرقاً بين موجودات ومطلوبات، بل "فرقٌ بين وعدٍ وزمن".
حين تُستبدَل الودائع بسندات طويلة الأجل، يصبح السؤال الاقتصادي الأكثر قسوة: كم تساوي الوديعة اليوم إذا كان سدادها مؤجلاً عقداً أو عقدين، وبأي سعر خصم، وبأي مخاطر سيولة؟ ما لم تُحدَّد بوضوح شروط التداول، والعائد، والأولوية عند التعثّر، وآليات التسعير، تتحوّل السندات إلى تعويضٍ اسميّ لا يعكس قيمةً فعليّة، ويُرحّل الصدمة من المصارف إلى ميزانيات الأسر. هذا تحديداً ما تطرحه قراءات صحفية محليّة اعتبرت أنّ المسودات تعطي أولوية لحماية أصول مصرف لبنان على حساب الدفع الفعلي لحقوق المودعين، عبر تعويضٍ "غير قابل للتقييم بدقة" لأن قيمته النهائيّة مرتبطة بشروط غير مكتملة.
في المقابل، تتمسّك المصارف بخطاب التدقيق أولاً: أي إن أي مقاربة قانونيّة للفجوة تتطلب تقييماً دقيقاً وشفافاً لفجوة مصرف لبنان على أساس بيانات مدقّقة ونمذجة واقعيّة تعكس الخسائر الفعليّة وقيمة الأصول المتعثرة، معتبرةً أن المقترح الحالي قد يمحو رساميل المصارف ثم يمدّ الخسائر إلى المودعين.
وعلى الضفة الأخرى، يروّج رئيس الحكومة لمنطق الواقعية: أن البلد بحاجة لقانون يفتح باب إعادة الهيكلة ويعيد جزءاً من الثقة ويكسر اقتصاد الكاش الذي تمدّد مع الانهيار، مع تعهّد بتدقيق دولي بأصول مصرف لبنان وإجراءات تستهدف الودائع "غير المشروعة" أو التحويلات الإشكاليّة.
لكن جوهر الصراع، اقتصادياً، لا يدور حول المبدأ بل حول "من يدفع كلفة الوقت". الفجوة قُدّرت بنحو 70 مليار دولار في 2022، ويُقال اليوم إنها أعلى بعد سنوات من ترك الأزمة بلا معالجة. وخلال سنوات الانتظار لم يتجمّد الرقم فقط؛ تغيّر المجتمع كله: وديعة التعليم صارت تُنفق على قسطٍ مدرسي "بالفريش"، ووديعة السكن صارت إيجاراً بالدولار، ووديعة التقاعد تحوّلت دعماً عائلياً لطبابةٍ طارئة.
حين يُطلب من المودع أن يقبل بسندٍ لعشر سنوات، فإن الدولة عملياً تطلب منه أن يمتصّ تضخّم الوقت وفوائد المخاطر بدل أن يتحمّلها القطاع الذي استفاد تاريخياً من الفوائد المرتفعة والهندسات الماليّة، لذلك لا يكفي أن يقول المشروع "عدالة للمودعين" أو "تدرّج"، لأن العدالة في الاقتصاد تُقاس أيضاً بقدرة الناس على استخدام أموالهم عندما يحتاجونها لا عندما تنضج ورقةٌ مالية في 2040.
والأكثر حساسية أنّ فكرة "السندات المدعومة بموجودات مصرف لبنان" تفتح باباً ثالثاً للنقاش: ما هي الضمانات فعلاً؟ هل هي أصول سائلة أم ذهب أم عقارات أم إيرادات مستقبليّة؟ وكيف تُدار هذه الضمانات بعيداً عن السياسة والمحاصصة؟
مصادر إعلاميّة لبنانية لفتت إلى أن الطرح يقوم على سندات مدعومة بموجودات وأملاك المصرف المركزي، لكنها تطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة هذه السندات وضماناتها وآليات سدادها ومدى حماية حقوق المودعين. هذه الأسئلة ليست ترفاً قانونياً؛ إنها معيار تسعير، من دون أجوبة، سيُسعّر السوق هذه الورقة على أنها عالية المخاطر، أي بخسارةٍ فورية للمودع حتى لو كُتب على الورق أنه استعاد حقه.
إذاً، الفجوة الماليّة اليوم ليست فقط "حاسبة خسائر" بل اختبار حوكمة: هل سيخرج لبنان من منطق التسويات الضبابيّة إلى منطق أرقامٍ قابلة للتدقيق ومساراتٍ قابلة للقياس؟ وهل يُكتب القانون بلغةٍ تحمي صغار المودعين فعلاً، لا فقط عبر وعد الدفع على أربع سنوات، بل عبر ضمان ألا تتحوّل السندات الطويلة إلى "صفقة إذعان" تُقايض الحقّ بالانتظار؟ في بلدٍ صار فيه المستقبل أغلى من الحاضر، أكبر فجوة ليست بين الموجودات والمطلوبات فحسب، بل بين مجتمعٍ يطلب أن يعيش الآن، ونظامٍ مالي يطلب منه أن ينتظر طويلاً كي يثبت أنه كان يملك حقاً.

alafdal-news
