غدير عدنان نصرالدين - خاص الأفضل نيوز
…لطالما يتغنَّى الصَّائم بسمارها أو لعلّها اللَّون الغامق الوحيد الذّي لا يختلف على حبِّه اثنان بعيداً عن فلسفة المجتمع. منذ القدم أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الطقوس اليومية لا سيما الرمضانية التي تعكس أصالة العادات العربية، إنَّها القهوة التي اتَّفق على حبها الصائمون إذ يشعرون بتَميُّزها الخاص خلال شهر رمضان المبارك، حيث تحتل مكانة بارزة كرمز أساسي لا غِنى عنه عقب الإفطار… تُراثٌ ورثه الصائمون عن أجدادهم والعرب القُدامى، فرائحة القهوة التي تفوح في أسقف البيوت ينتظرها الصّائم بفارغ الصَّبر…رشفةً واحدةً منها كفيلة على نقله من عالم الإرهاق إلى عالم الوعي و الإدراك لجمال طعمها خصوصاً إذا رافقها جَلسةً عائلية رمضانية تفوح منها رائحة البُنّ ممتزجةً برائحة التمر والزَّبيب.
فما هو السر وراء الارتباط الوثيق للقهوة بشهر رمضان؟ ولماذا يَتَوتَّر بعض الصائمين لعدم شربها؟
القهوة تراث الصائمين عبر الزمن
لا بدّ لعشَّاق القهوة أن يعرفوا قليلاً عن تاريخها لا سيما أنّها ارتبطت بالصائمين منذ قرون عديدة، ووفقاً للعديد من المُتَابعات، يعود تاريخ القهوة لمئات السنين.
من أين أتت القهوة؟
تُعتبر إثيوبيا الموطن الأصلي لثمار نبات البُن العربي، ولكن التحميص والتخمير الأول لها كان في اليمن في القرن الخامس عشر، ومن المُعتقد أن القهوة انتقلت شمالًا من إثيوبيا إلى اليمن عبر البحر الأحمر حيث بدأت زراعتها.
والجدير ذكره أنَّ العرب هم من أوجدوا تسمية "القهوة قبل أن تكون هناك قهوة"، فكيف ذلك؟
القهوة كان اسم يُطلق على الخمر في العصرين الأموي والعباسي، وذلك لأنها تُقهي شاربها عن الطعام أي تذهب شهوته. وظلّت تسمية "الخمر" بـ "القهوة" حتى اكتشفوا شراب البن/القهوة في اليمن، فاستعاروا له هذا الاسم وذاع في أرجاء العالم أن شراب البن هو القهوة المنشطة للذاكرة والمعنيَّة في أداء المهمات والمختلفة تماماً عن الخمر الذي يُذهب العقل.
القهوة "نبيذ" المسلمين في رمضان…
من المُلفت القول، أنّ العرب القدامى كانوا أحياناً يطلقون اسم "النّبيذ" على القهوة العربية التي كانوا يصنعوها تحديداً في شهر رمضان، لأنَّهم كانوا في الشَّهر الفضيل استثنائياً يضاعفون مقادير البُن في القهوة لكي يتخلّصوا من وجع الرأس الذّي قد يخيّم عليهم بعد الإفطار… فالعرب القُدامى كانوا يُخصصون وقتَ ما بعد الإفطار للتّجمع مع بقيّة القبائل، ومن شدَّة تعلُّقهم بالقهوة وحبهم لها في الشهر الكريم بالأخص، كانوا ينظّمون أشعاراً عنها بسبب الفوائد التي تمليها عليهم خصوصاً بعد الإفطار، ومن هنا جاء الارتباط الوثيق بين القهوة وشهر رمضان.
لماذا يشتدّ توتر الصائم بدون جُرعة "الكافيين"؟
في سياقٍ مُتصل، شرحت أخصائيَّة التّغذية، نور طاهر، في حديثٍ لـ "الأفضل نيوز"، أن الأشخاص الذين ليس لديهم أي مشاكل بالقلب ولا المعدة يمكنهم شرب ٤٠٠ ملغ من الكافيين بالنهار أو- خلال شهر رمضان -أي حوالي ٣-٤ أكواب كحد أقصى، مؤكدَّة أنّ القهوة تؤثر على الجهاز العصبي وعلى أعضاء ثانية بالجسم. ومن ناحية علميَّة، شرحت أنّ أي مادة تدخل إلى الجسم لا بُد أن يكون لها "مقعد" إذا صحّ التعبير أي "receptor"، فمادة الكافيين لديها تلك المقاعد وترتفع أعداد الـ receptors مع ازدياد شرب القهوة، فبحالة الصائم عندما لا يشرب كمية القهوة التي اعتاد عليها يوميّاً قبل حلول الشهر الفضيل، بالتالي تلك المقاعد لن تُشَبَّع بالكافيين، والأخير لن يعمل داخل جسده لذا يُصاب الصائم بالتوتر، وجع الرأس، قلَّة التركيز والرجفة بجفن العين أحياناً… وقد أشارت طاهر إلى أن عدم شرب القهوة خلال النهار في شهر رمضان وانخفاض الكمية التي لطالما اعتاد عليها الصائم، هي السبب الرَّئيسي للـ"ستريس" والمسؤول عنه هو هورمون الـ "كورتيزول".
كما أشارت طاهر إلى جُزيئات "الأدينوزين" التي يفرزها الجسم، والتي تُساهم في تفكيك الكافيين، والتي يكمن دورها بتوتر الأشخاص أو نشاطهم، فعند بعض الأشخاص يكون "الأدينوزين" سريع بتفكيك الكافيين لذلك يشعرون بالتعب والنعاس وعند البعض الآخر يكون "الأدينوزين" بطيئًا بالتفكيك لذلك تظل الكافيين لفترة أطول بالجسم ولا يشعرون بالتعب والتوتر أثناء الصيام وبذلك يحافظون على نشاطهم وحيويتهم.
بدورها، أوضحت أخصائية التَّغذية، غنى محي الدين، أنَّ ارتباط الكافيين الذي تتشابه تركيبته مع مُستقبِلات الأدينوزين(receptors) يؤدي إلى زيادة إفراز الدوبامين، فارتفاع الدوبامين بالجسم يعطي الحيوية والطاقة، يقوي ذاكرة ويعزز الانتباه والقدرة على التركيز، بالمقابل الكافيين يعمل مثل الأدرينالين، أي عندما تكون نسبة الكافيين مُنخفضة في جسم الصائم، يُصاب بوجع رأس قوي، وانخفاض الكافيين بشكل عام يُقسم إلى قسمين:
انخفاض الأدرينالين يؤدي إلى التعب والاكتئاب، وفي الكفّة الأخرى انخفاض الدوبامين يخلق شعورًا بالقلق حيث يصبح الصائم بحاجة إلى جرعة أقوى وأعلى من الكافيين والكمية القليلة لن تكفيه.
وقدَّمت محي الدين نصيحة إلى شاربي القهوة بكثرة أنهم من الممكن أن يستبدلوها بـ "الماتشا" (شاي أخضر ياباني) أو بالشاي الأخضر العادي، وعلى الرغم من احتواء البدائل على كافيين إلا أنهم مُدعَّمين بالفيتامينات ومضادات الأكسدة.
كما شدَّدت على ضرورة شرب كميات كبيرة من المياه لأنّ القهوة مُدرة للبول وتُقلل سوائل الجسم للصائم وغير الصائم، وقد توافقت معها أخصائية التغذية نور طاهر في هذه النقطة، كما شدَّدت الأخيرة على عدم شرب القهوة مُباشرةً بعد الإفطار بل الانتظار لـ"ساعتين" تقريباً…
ارتفاع سعر مبيع القهوة سنوياً مع قدوم شهر رمضان:
علاوةً عمّا ورد سابقاً، تجدر الإشارة إلى أنّ تجارة القهوة/ البُن تحتل المرتبة الثانية عالميّاً بعد تجارة النّفط مباشرةً من حيث القيمة الاقتصادية، إذ يُستَهلك حوالي نصف تريليون كوب سنوياً عِلماً أن القهوة هي ثالث أكثر المشروبات استهلاكًا في العالم بعد الماء والشاي وذلك بسبب أهميتها بشكل عام، وتعلق الصائمين بها بشكل خاص، ولهذا، مثل كُل عام، تُسجّل أسعار البُن خلال شهر رمضان ارتفاعاً ملحوظاً، فهذه السنة ارتفعت أسعار البُن بنسبة ١٧٪ وذلك بسبب تقلُّبات السوق العالمية وزيادة العرض والطلب.
ولا يُمكن غضّ النَّظر أن كثرة الطلب على القهوة من قِبل الصائمين بالموازاة مع "العروض" التي يُقدِّمُها أصحاب المحال التجارية، يساعد في ارتفاع أسعارها. وعلى سبيل المِثال، تُحقق قهوة "المخا" أو ما يُعرف بـ "الموكّا" -يَمَنيَّة الأصل- مبيعات عالية خلال الأيام العادية لكن خصوصاً في شهر رمضان يزداد الطلب عليها وذلك بسبب نكهتها المميزة عن سائر أنواع القهوة.
في المحصلة، ربما على البعض قبل تناول كوب جديد من القهوة تذكُّر تاريخها الطويل، فالقهوة في رمضان ليست مجرد مشروب، بل هي عنصر أصيل يعكس تراث وثقافة العرب، ويجمع بين النكهة والروحانية والجوانب الاجتماعية...ولكن هل ستظل القهوة في المستقبل تحتفظ بمكانتها المحورية في الحياة الرمضانية في ظل تغير العادات والتقاليد سنة بعد سنة؟