د. علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
من عجائب وغرائب الدنيا هذه الأيام، أن التحوّل في استراتيجية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه روسيا ـــ من خلال سلسلة من التنازلات والتغييرات السياسية المقترنة بتهديدات لحلفاء واشنطن التقليديين لا سيما الأوروبيين منهم ـــ يبشّر بنظام عالمي أكثر ملاءمة لموسكو.
ترامب وتخريب نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية
في الحقيقة، يمهدّ حديث ترامب عن السيطرة على قناة بنما، وجعل كندا الولاية الحادية والخمسين، والحصول على غرينلاند "بأي طريقة كانت"، لتمزيق نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية لصالح عالم خالٍ من القيود المفروضة على التوسع الإقليمي بالقوة – ويجعله فعليًا، أقرب إلى وجهة نظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وتعقيبا على ذلك قال فلاديسلاف، نائب رئيس الوزراء الروسي السابق ــــ الذي حارب تصدير الديمقراطية الغربية إلى روسيا، وهندس غزو القرم وشرق أوكرانيا عام 2014 ـــ لمجلة L’Express الفرنسية: "ترامب أقرب أيديولوجيًا إلى بوتين منه، على سبيل المثال، إلى [الرئيس الفرنسي إيمانويل] ماكرون".
وإذ أشار سوركوف إلى أن "مفاوضات السلام ستُحقق هدف روسيا: هزيمة أوكرانيا إما بالحرب أو بالدبلوماسية، وتقسيمها "إلى أجزاء طبيعية"، لفت الانتباه إلى أن "العالم الروسي لا حدود له". وتابع "سنتوسع في كل الاتجاهات، إن شاء الله، وبقدر ما تسمح به مواردنا".
بموازاة ذلك، كتب المحلل ميخائيل يميليانوف في صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا الروسية أن سياسة ترامب "مفيدة لروسيا"، مشيرًا إلى أن "ترامب مستعد لتقديم تنازلات جادة لروسيا دون المطالبة بخطوات متبادلة".
وأضاف أن العالم متعدد الأقطاب قد وصل بالفعل وترامب يعيش فيه بالفعل".
كيف صبّت سياسات ترامب الجديدة في مصالح روسيا؟
في الواقع حتى قبل بدء محادثات السلام، رفضت إدارة ترامب علنًا مطالب رئيسية لكييف، بما في ذلك عضوية الناتو والإبقاء على الأراضي الأوكرانية التي احتلتها روسيا على طاولة المفاوضات.
ليس هذا فحسب، ففي تصريحات مثيرة للجدل توحي بقبول أمريكي ضمني بأن لروسيا مطالب مشروعة في الأراضي الأوكرانية، قال المبعوث الخاص لترامب، ستيف ويتكوف، إن المناطق الخمس التي ضمتها موسكو هي جزء من روسيا، وأضاف: "هذا كان دائمًا جوهر القضية"، وأكد أن روسيا "استعادتها".
علاوة على ذلك أشار ويتكوف إلى أن استفتاءات الضم كانت دليلًا على أن "الأغلبية الساحقة" في تلك المناطق تريد أن تكون تحت الحكم الروسي".
كما وعد مفاوضو ترامب بعقد صفقات اقتصادية مع روسيا بمجرد توقيع اتفاق السلام ــ وهو هدف رئيسي لبوتين من شأنه أن يساعد في إنعاش الاقتصاد الروسي، خصوصًا وأن المحادثات الأخيرة حول وقف إطلاق النار الجزئي في البحر الأسود قد تمنح روسيا إمكانية العودة إلى نظام SWIFT العالمي للتحويلات المالية، تحت غطاء بيع الحبوب — وهو هدف طالما سعت إليه حكومة بوتين.
أكثر من ذلك، ومع استمرار محادثات السلام، أوقفت عدة وكالات للأمن القومي الأمريكي عملها في مواجهة الهجمات الإلكترونية الروسية. وصدرت أوامر للقيادة السيبرانية الأمريكية بوقف التخطيط لعمليات سيبرانية هجومية ضد روسيا.
بوتين من عدوّ سابق إلى صديق موثوق
في عهد ترامب، لم يعد يُنظر إلى بوتين على أنه خصم غير متوقع يسعى لإنهاء الهيمنة العالمية للولايات المتحدة، بل بات يُرى كشخص ذكي، كريم، وصديق محبوب، وهو وفقًا لويتكوف، لن يستولي على مزيد من الأراضي الأوكرانية أو يهاجم أوروبا في المستقبل.
وتبعًا لذلك يتساءل ويتكوف "لماذا قد يرغبون في ضم أوكرانيا؟ لأي غرض بالضبط؟
إنهم لا يحتاجون إلى ضم أوكرانيا"، وقال في مقابلة صحفية معه "لقد أعجبني. شعرت أنه كان صريحًا معي. أنا لا أعتبر بوتين رجلًا سيئًا."
وانطلاقًا مما تقدم، فتح هذا النهج الترامبي السلمي مع موسكو، الباب أمام بوتين للخروج من عزلته في واشنطن، ليستعيد مكانته كزعيم عالمي قادر على المساعدة في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، أو الشراكة مع الولايات المتحدة لتصدير غاز القطب الشمالي الروسي إلى أوروبا.
بالمقابل اتهم ترامب كييف ببدء الحرب، ووصف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالديكتاتور، مكررًا بذلك ادعاءات بوتين.
ترامب وتعطيل تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية حول ارتكابات روسيا في أوكرانيا
غني عن التعريف أن المحكمة الجنائية الدولية، كانت وجهت اتّهامات لبوتين بارتكاب جرائم حرب مزعومة عام 2023، وذلك على خلفية اختطاف آلاف الأطفال الأوكرانيين.
لكن المفاجأة الكبرى أن وزارة الخارجية الأمريكية أوقفت هذا الشهر تمويل مشروعٍ مدته ثلاث سنوات يُنفّذه مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة ييل لتتبع مصير آلاف الأطفال المختطفين.
ومنعت الوزارة أيضًا، إرسال أي أدلة إلى المحكمة. كذلك ساهم عمل جامعة ييل، في إعداد ست لوائح اتهام من المحكمة الجنائية الدولية ضد مسؤولين روس، بمن فيهم بوتين.
وبناءً على ذلك فقدت المحكمة إمكانية الوصول إلى كنزٍ من المعلومات، بما في ذلك صور الأقمار الصناعية، والبيانات البيومترية التي تتبع هويات ومواقع ما يصل إلى ٣٥ ألف طفل أوكراني - وهي معلومات بالغة الأهمية لإعادتهم إلى ديارهم.
زد على ذلك أوقفت إدارة ترامب العمل مع المركز الدولي لمقاضاة جريمة العدوان - وهو وحدة تحقيق متعددة الجنسيات تابعة لوكالة يوروجست، وهي وكالة الاتحاد الأوروبي للتعاون في مجال العدالة الجنائية - لمقاضاة المسؤولين عن الحرب الروسية على أوكرانيا.
ترامب وتفكيك أدوات القوة الناعمة الأمريكية لصالح روسيا
طوال العقود الماضية، سخرت واشنطن كافة قدرات قواتها الناعمة لمحاربة موسكو والقضاء على نفوذها وتأليب الرأي العام الروسي على بوتين. لهذا، عارض الكرملين لسنوات وبشدة نشاطات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، وإذاعة أوروبا الحرة/إذاعة الحرية (RFE/RL)، وإذاعة صوت أمريكا ــ وهي جميعها تعدّ الأدوات الرئيسية للقوة الناعمة الأمريكية ــــ التي تعمل إدارة ترامب الآن على إلغائها جميعًا أو تقليص تمويلها وموظفيها.
وتبعًا لذلك، صنّفت موسكو في العام 2017، إذاعة أوروبا الحرة/إذاعة الحرية كعميل أجنبي، وفرضت غرامات عليها، مما أدى في النهاية إلى إفلاس عملياتها في روسيا.
ما تجدر معرفته أن USAID دعمت العديد من وسائل الإعلام الروسية والأوكرانية الصغيرة المستقلة من خلال تمويلها.
ولهذا، هاجمت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، وكالة USAID، قائلة إن أدوات القوة الناعمة الأمريكية كانت تُستخدم "لإبقاء السرديات المؤلمة والمنحرفة للمحرّرين الأمريكيين المتطرفين على قيد الحياة."
وأضافت زاخاروفا أن USAID تمثل "مخاطر أكبر من المساعدات"، ووعدت بأن روسيا ستستمر في "قمع محاولات الخارج لتقويض الاستقرار والأمن في فضائنا المشترك تحت ذريعة القلق المزعوم بشأن الديمقراطية."
ترامب وتنفيذ استراتيجية بوتين بإضعاف الناتو وإبعاد واشنطن عن أوروبا
كان أحد الأهداف الاستراتيجية الرئيسية لبوتين خلال ربع قرن من حكمه، إضعاف حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعزل الولايات المتحدة عن أوروبا وتقليص وجود الناتو في شرق أوروبا. لكن ترامب سهل الأمر على الرئيس الروسي، وقام بالمهمة عنه على أكمل وجه أمره.
من هنا، قلب ترامب عقودًا من السياسة الخارجية الأمريكية رأسًا على عقب من خلال توثيق العلاقات مع روسيا، بينما هدد حلفاء الناتو، وأوقف المساعدات العسكرية والتعاون الاستخباراتي مع أوكرانيا.
إلى جانب ذلك، صبّ ترامب جام غضبه على القارة العجوز، معتبرًا أن الاتحاد الأوروبي "تشكّل من أجل الإضرار بالولايات المتحدة"، كذلك هدد بفرض رسوم جمركية بنسبة 25٪ على أوروبا.
وعلى المنوال ذاته، حذر وزير الدفاع بيت هيغسث وزراء دفاع الناتو الشهر الماضي من أنهم لا يستطيعون افتراض أن القوات الأمريكية ستظل في أوروبا إلى الأبد، حيث لم تعد واشنطن تركز بشكل أساسي على الأمن الأوروبي، مما جعل حلفاء الناتو يتساءلون عما إذا كان ترامب قد يسحب القوات من أوروبا في السنوات القادمة.
في المحصّلة:
إن عداء أقطاب الإدارة الأمريكية الجديدة لأوروبا، خصوصًا نائب الرئيس الامريكي جي دي فانس ووزير الدفاع هيغسث ظهر في أعقاب الكشف عن فضيحة الدردشة الجماعية على تطبيق Signalحول اليمن، حيث عارض مسؤول يُعتقد أنه فانس، الضربات الامريكية على صنعاء، لأن الهجمات الحوثية في البحر الأحمر تؤثر بشكل رئيسي على الشحن الأوروبي، حيث كتب الأخير: "أنا فقط أكره إنقاذ أوروبا مجددًا." فردَّ مسؤول يُرجّح أنه هيغسث قائلاً: "نائب الرئيس، أشاركك تمامًا كراهيتك للركوب على ظهر أوروبا. إنه أمر مُزري.