محمد علوش - خاص الأفضل نيوز
منذ الانهيار المالي في خريف 2019، لم يعد الاقتصاد اللبناني كما كان. مؤسسات الدولة تراجعت، العملة الوطنية انهارت، والمصارف تحوّلت إلى جدران صمّاء تحبس الودائع وترفض حتى المشاركة بتحمل المسؤولية أمام المودعين، ومع ذلك، رغم كل هذا، لا يزال البلد واقفًا على قدمَيه، والحياة مستمرة رغم تعرض فئة واسعة لضربات مادية قاسية، فكيف يمكن تفسير هذا الأمر؟
بحسب العارفين يمكن تفسير هذا الواقع من خلال وجود اقتصاد موازٍ في لبنان، لا تسيطر عليه الدولة، ولا يخضع لرقابة، بل يتغذّى من الدولار النقدي، والتهريب، والتحويلات، والمساعدات الدولية، وهذا ما يمكن تسميته بالاقتصاد غير الرسمي، كما يُمكن تسميته "بالمنقذ القاتل"، لأنه يُعطي صورة إيجابية عن الواقع اللبناني على المدى القريب ولكن تداعياته مدمّرة على المدى المتوسط.
في ظل انعدام الثقة بالقطاع المصرفي، باتت التعاملات النقدية بالدولار تُشكّل العمود الفقري للاقتصاد اليومي، وهو ما يُعرف في لبنان بالدولار "الفريش" الذي أصبح العملة الحقيقية في البلد، فيما الليرة اللبنانية تواصل سقوطها الحرّ، ولو ثبُتت منذ أشهر على مستوى 90 ألف ليرة، وهو الرقم الذي لا يمثل الواقع والحقيقة.
لكن الدولة، بكل مؤسساتها، غائبة عن المشهد المالي، الضرائب تتبخر، والرقابة معدومة، والتجارة تسير خارج النظام الرسمي. هذا الغياب لا يعبّر عن عجز فقط، بل عن تواطؤ في بعض الأحيان.
لبنان لا يزال يتلقى ما يقارب 7 إلى 9 مليارات دولار سنويًا من تحويلات المغتربين، تُشكّل هذه الأموال المتنفس الأساسي لعشرات آلاف العائلات التي بقيت صامدة خلال كل الأزمة، لكن هذه الأموال لا تمر عبر قنوات مصرفية نظامية، بل تصل "يدًا بيد" أو عبر شركات تحويل أموال خارج الرقابة الرسمية، ومعروف في لبنان أن هناك "مال الشنط" التي كانت تدخل البلد وفي أحيان كثيرة تضيع أو تُسرق من قبل الناقلين، في المقابل، يشكّل التهريب على الحدود مع سوريا وفي المرافئ اقتصادًا قائماً بحد ذاته، يغذي السوق بالبضائع من دون جمارك أو ضرائب، ويغني مجموعات تملك النفوذ، وهي عابرة للطوائف، بنت اقتصاداً موازياً لم يتم السيطرة عليه بعد، وكل هذا يطرح تساؤلاً مهماً للغاية، من يُدير الاقتصاد فعلياً؟
مع تراجع دور الدولة، ظهرت قوى محلية، حزبية ومناطقية، وطائفية، تدير القطاعات الحيوية: من المحروقات واستيراد النفط وتوزيعه، إلى الكهرباء من خلال المولدات التي تسيطر على المشهد اللبناني منذ عشرات الأعوام، مروراً بالنقل، والتعليم الخاص بعد تدمير التعليم الرسمي، وصولاً للمستشفيات والقطاع الصحي وقطاع الدواء، والاتصالات والإنترنت وغيرها الكثير، بينما تقف الدولة متفرجة في بعض الأوقات، ومتواطئة في أغلب الأوقات، حيث يُمكن اعتبار الاقتصاد اللبناني اقتصاداً ميليشياوياً، حيث تتحكم كل جماعة بقطاع معين، وتفرض منطقها الخاص.
يمنح هذا الاقتصاد الموازي اللبنانيين بعض التنفّس، لكنه يُنتج تداعيات خطيرة، فكلفته قد تكون غير مرئية لكنها "قاتلة"، فهو يُعتبر سبباً رئيسياً بتضخيم الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وهذا ما بات واقعاً منذ العام 2019 حتى اليوم، انهيار الخدمات العامة، من التعليم إلى الصحة، وأيضاً شهدنا خلال السنوات الماضية على تراجع كبير على هذا الصعيد بعد أن كان لبنان جامعة ومستشفى العرب، والأهم أنه يجعل تطبيق أي خطة إصلاحية أو مالية أمراً مستحيلاً ويضرب دور المصرف المركزي، وهذا ما نعايشه منذ بدء الانهيار، حيث لا تسير خطة كما يجب ولا تُقر فكرة كما ينبغي، إذ يحاول كل طرف من أطراف هذا الاقتصاد الموازي التمسك بمكتسابه بما يجعل الإصلاح مستحيلاً.
من خلال هذا الواقع يتبين أن الإصلاح بحاجة أولاً إلى التخلص من الاقتصاد الموازي، وهذا أصل الإصلاحات، فلبنان يعيش اليوم خارج منطق الدولة الحديثة، وفيه مؤسسات تُدار نظريًا، واقتصاد يُحرّكه "الظل"، والمفارقة الكبرى أن هذا الاقتصاد، الذي ينقذ الناس من الجوع، هو ذاته الذي يُجهز على ما تبقّى من الدولة، ويشكل المانع الأول والأكبر لقيامها.