رنا نحلة
في وطنٍ كلبنان، لا يُقاس الزمن بالسنين بل بالهدوء بين العواصف، وبالأنفاس المسروقة من فم الموت، وبالرجفة التي تسكن تحت الجلد كلما حلّ الليل على الجنوب أو علا صوت الطائرات في سماء البقاع. البعض يسميه “الروتين الأمني”، لكن أبناء الأرض يعرفون أنه ليس روتينًا، بل هو امتحان متكرر للإيمان والثبات.
الذين يعيشون في كنف المقاومة، لا يتعوّدون على الألم، بل يتجاوزونه، لا يتأقلمون مع الخطر، بل يحولونه إلى عنوان كرامة. فالاعتياد على الوضع الأمني المضطرب ليس خنوعًا كما يتوهم البعض، بل هو وجه آخر للبطولة اليومية، تلك التي لا تُنقل على الشاشات، بل تُروى من فم الأمهات الصابرات، وتُكتب في خطوات الأطفال الذاهبين إلى مدارسهم على وقع صافرات الإنذار.
إن صمت الضاحية حين تسمع دويّ الانفجار، ليس عجزًا، بل إدراك عميق بأن الصراع أوسع من لحظة خوف، وأن الوجع الذي يُزرع في البيوت لن يثمر استسلامًا، بل ثباتًا أشد. وإن خروج الناس إلى الشوارع بعد كل تصعيد، لا ليحتجوا، بل ليواصلوا حياتهم، ليس بلادة، بل قمة التحدي والإيمان بأن الوطن لا يُعطى للعدو حتى وإن امتلأ بالألم.
في لبنان، تعلّمت المقاومة أن الانتصار لا يأتي فقط من فوهة البندقية، بل من شجرة زيتون لم تُقتلع، من حقلٍ لم يُترك، من أمٍ لم تهاجر، من شارع عاد ينبض رغم الرعب. الانتصار هو أن تستمر، أن تصحو كل يوم رغم ضجيج الموت وتقول: “أنا هنا، على هذه الأرض، باقٍ”.
أما العالم، فقد يكون اعتاد على رؤية لبنان في عين العاصفة، لكنه لا يرى ما وراء الغبار. لا يرى كيف يُولد الأمل في الأزقة الضيقة، كيف تنمو الكرامة تحت الحصار، وكيف يُصاغ المجد من الشقاء. لا يرى أن شعبًا بأكمله، يربّي أبناءه على الحلم، لا على الثأر، وعلى البناء، لا على الهدم، هو شعب لا يُقهر.
لذلك، فإن ما يبدو اعتيادًا، هو في حقيقته مقاومة ناعمة، صبر لا يُقال، بل يُمارس. هو ذاك النوع من الصبر الذي لا ينتظر المكافأة، بل يعرف أن الكرامة وحدها تستحق التعب.
لبنان ليس بلدًا يعتاد الحرب، بل بلد يُعيد اختراع السلام كل مرة من تحت الركام. وشعبه لا يتأقلم مع الألم، بل يحوّله إلى وعدٍ جديد بالحياة