غدير عدنان نصرالدين - خاص الأفضل نيوز
مع اقتراب فصل الصيف، يبرز لبنان كوجهة غنية بالفواكه الموسمية، لا سيما الصيفية منها، بفضل مناخه المعتدل وأرضه الخصبة التي لطالما شكلت بيئة مثالية للزراعة. ورغم التغيرات المناخية والتحديات التي طرأت على التربة في السنوات الأخيرة، لا تزال تجارة الخضار والفاكهة تحتفظ بمكانتها كمحرك أساسي للاقتصاد المحلي، إذ تلعب دوراً محورياً في حياة المستهلكين اليومية. وكحال مختلف القطاعات التجارية، تتداخل عوامل الإنتاج المحلي مع الاستيراد، لتنسج مشهداً اقتصادياً متكاملاً يعكس تفاعل الأسواق مع التحديات والفرص المتاحة.
في ظل التغيرات الجذرية التي تعصف بالأسواق اللبنانية، خاصة في مرحلة ما بعد الحرب، يبرز التساؤل حول مصدر المنتجات الزراعية التي تغزو الأسواق: هل هي محلية أم مستوردة؟ فمع تراجع جودة بعض السلع وتضرر خصوبة التربة في مناطق عدة، يصبح التدقيق في هذه المسألة أكثر إلحاحاً. وفي هذا السياق، يتساءل العديد من المواطنين حول مدى التزام الجهات الرقابية بمهامها في حماية المستهلك وضمان جودة المنتجات الزراعية، وسط تحديات تستوجب رقابة صارمة وإجراءات فعالة للحفاظ على سلامة الغذاء واستدامة القطاع الزراعي.
مما لا شك فيه، تتميز الفواكه المحلية بتنوعها وجودتها، ومع حلول فصل الصيف، يزداد التنافس بين المزارعين، حيث يرى البعض أن دعم الإنتاج المحلي وتعزيزه في الأسواق ضرورة لتقليل الاعتماد على المنتجات المستوردة، فيما يؤكد آخرون أن محاصيل مناطقهم هي الأجود مقارنةً ببقية المناطق اللبنانية. ورغم هذا الواقع، يبقى الاستيراد جزءًا لا يتجزأ من المحصول الزراعي السنوي في لبنان.
ماذا وراء رفوف الأسواق؟
المنتجات الزراعية بين الإنتاج المحلي وزحف الاستيراد
في سياق متصل، أوضح هادي قواس، تاجر وصاحب "سوق صيدا للخضار والفاكهة"، في حديث لـ "الأفضل نيوز"، أن الأسواق المحلية تضم على مدار السنة منتجات زراعية محلية ومستوردة. وأشار إلى أن الحرب الأخيرة كان لها تأثير محدود على الإنتاج الزراعي، دون أن تؤدي إلى انقطاع أو فقدان بعض الأصناف من الأسواق، لافتاً إلى أن الكميات قد تتراجع مقارنة بالسنوات السابقة، لكن ذلك لا يصل إلى حد الانقطاع، وإن كان قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بسبب انخفاض العرض.
أما فيما يتعلق بالمنتجات المستوردة، تتنوع الأصناف المتوفرة في الأسواق بين التفاح الأوروبي، الإجاص التركي، الأناناس المستورد من الدول الأوروبية، والمانغا المصرية، إضافة إلى البطاطا المصرية التي تخضع لموسم محدد، فضلاً عن جوز الهند والكستناء التركية والبطاطا الحلوة والرمان التركي، موضحاً أن تركيا تبرز كدولة فاعلة في تصدير المنتجات الزراعية، حيث تُستَورد منها أصناف عدة، من بينها الجنارك. كما تتوفر المانغا المصرية والمانغا القادمة من الدول الأوروبية، إلى جانب المانغا اليمنية التي دخلت البلاد عبر التهريب، ما دفع السلطات والجمارك إلى مصادرتها واتخاذ الإجراءات اللازمة بحقها. كما أُكد قوَّاس أن الخضار في الأسواق جميعها محلية، وتشمل البندورة، الخيار، الكوسا، الفليفلة، الزهرة، الباذنجان، اللوبيا، الفول، البازلاء، والملفوف، حيث يتم إنتاجها محلياً دون الحاجة إلى استيرادها من الخارج. وبالنسبة لبعض الأصناف القادمة من سوريا، فهي تُعتبر مستوردة، إلا أن الأسواق المحلية لا تصنفها كذلك. فالبندورة السورية تدخل بكميات كبيرة نظراً إلى عدم كفاية الإنتاج اللبناني منها، إلى جانب أصناف أخرى مثل الزهرة والباذنجان، التي يُنظر إليها على أنها منتجات بلدية، بالرغم من أنها تأتي من سوريا. ويُشار إلى أن معظم هذه المنتجات تصل عن طريق التهريب عبر الحدود.
بين العرض والطلب.. حماية المستهلك تتحرك لضبط أسعار الخضار اليوم
ومن جهة ثانية، بيَّن قوَّاس أن موجات ارتفاع الأسعار، التي كانت تحدث سابقاً، شهدت ضبطاً نسبياً، إذ أصبح الغلاء مرتبطاً بعوامل العرض والطلب وليس بالجشع أو الاحتكار. ففي حال كان السوق بحاجة إلى عشرة أقفاص ولم يتوفر سوى ثمانية، يحدث ارتفاع في الأسعار، لكنه يظل ضمن نطاق مضبوط كما كان الحال خلال العامين الماضيين.
كما ذكر أنَّ مصلحة حماية المستهلك تعاملت في بداية الأزمة مع ارتفاع أسعار الخضار بشكل خاطئ، إذ كانت تعتمد على نسب مئوية ثابتة كما هو الحال مع المواد الغذائية، ما أدى إلى التسعير غير الدقيق، وقد لفت إلى أنه بعد التنسيق والتعاون بينهم وبين الجهات الاقتصادية، تم التوصل إلى آلية مناسبة لمراقبة الأسعار، آخذين بعين الاعتبار تكاليف النقل والتعبئة والتغليف، وحتى اليوم تواصل الجهات المعنية متابعة هذه الآلية لضمان ضبط الأسعار بشكل يتماشى مع واقع السوق. وأكد هادي قواس أن جولات حماية المستهلك تتكرر شهرياً تحديداً بالسوق الخاص به نظراً لأنه عنوان للخضار في صيدا.
دورة الاستيراد والشحن: كيف تؤثر على أسعار الخضار في الأسواق المحلية؟
بدورها، أوضحت المهندسة الزراعية، كاميليا جفال، أن عمليات الاستيراد من الأردن عبر البر تتم من خلال شركات متخصصة، حيث تُستورد الأسمدة عبر الموانئ وتُباع داخلياً، وعوضاً عن عودة الشاحنات فارغة، يتم تحميلها بالخضار والفاكهة القادمة من دول عدة، مثل سوريا، مصر، اليمن، والأردن... هذه الآلية تؤثر على أسعار الخضار في الأسواق المحلية، خاصة عند استيراد منتجات تتزامن مع مواسم الإنتاج المحلي، مثل البندورة، الخيار، والعنب، مما ينعكس سلباً على المزارعين الذين يواجهون تحديات في تغطية تكاليف الإنتاج من رش وأجور...
على المقلب الآخر، شرحت أن هذا النظام يؤدي إلى خلق أسعار تنافسية، إذ يتم تحميل الشاحنات بالخضار والفاكهة المستوردة بدل عودتها فارغة، مما يقلل من تكلفة الشحن على المستورد، ويجعل الأسعار في الأسواق أكثر تنافسية. ومع ذلك، يبقى الإنتاج المحلي أكثر كلفة، مما يجعل آلية التسعير تعتمد بالدرجة الأولى على التعرفة التي تضعها "الحِسَب".
المبيدات الزراعية بين سوء الاستخدام وغياب الرقابة: مخاطر تهدد المستهلكين
بالإضافة إلى ذلك، أشارت جفال إلى أن غياب دور وزارة الزراعة في تنظيم الإنتاج الزراعي، حيث لا توجد رزنامة زراعية واضحة لتحديد أعداد المزارعين والمساحات المزروعة في كل منطقة، يؤدي إلى فائض في بعض المنتجات خلال مواسم معينة، مثل الباذنجان والبندورة والخيار، وبالتالي انخفاض الأسعار نتيجة الكساد.
إلى جانب ذلك، شددت أن القطاع الزراعي يفتقر إلى التنسيق بين المزارعين وإلى رقابة من وزارة الزراعة على استخدام المبيدات الزراعية، في ظل التهريب من الصين عبر سوريا، والتي تسهل دخول المبيدات الممنوعة، مما يهدد التربة والمياه الجوفية ويؤثر سلباً على صحة الإنسان بشكل مباشر. كما أن ضعف الوعي لدى بعض المزارعين بخصوص "ما هو المبيد الذي يُرش" و"متى هو الموعد المناسب لقطف الفاكهة بعد رشِّها" يؤدي إلى حصاد المنتجات قبل انتهاء فترة الأمان، ما يعرض المستهلكين لمخاطر صحية.
"الراشيتا العلمية"... خطوة تنظيمية مفقودة
تطرقت جفال إلى ما يسمى بـ "الراشيتا العلمية"، التي تهدف إلى تنظيم عملية استخدام المبيدات الزراعية، بحيث يصبح المزارع والمهندس الزراعي مسؤولين عن الالتزام بالتوصيات المعتمدة. غير أن هذه الراشيتا قوبلت بالمعارضة في وزارة الزراعة، نظراً إلى أن المُزارع يتحمل تكلفتها ويواجه مساءلة قانونية في حال عدم الالتزام بها، مما أدى إلى عدم تطبيقها فعلياً. ففي ظل غياب الرقابة، يستمر العديد من المزارعين في استخدام المبيدات وفق تقديراتهم الشخصية، حيث قد يتم رش المحاصيل اليوم وقطفها في اليوم التالي، دون مراعاة الفترات الآمنة المحددة علمياً. لذا، بات من الضروري تعزيز آليات الرقابة وتقديم برامج تدريبية مخصصة للمزارعين لضمان الاستخدام السليم للمبيدات وحماية صحة المستهلكين، وقفاً للمهندسة الزراعية كاميليا جفال.
في الختام، في ظل التحديات التي تواجه الأسواق اللبنانية لابد من التوازن بين الإنتاج المحلي والاستيراد للنهوض بالقطاع الزراعي أكثر فأكثر... ومع ضبابية دور وزارة الزراعة يجدر السؤال عن مستقبل هذا القطاع، ومدى تأثير العوامل الخارجية عليه. فهل سيتم تفعيل آلية من قِبل المعنيين لتنظيم الإنتاج الزراعي الذي بدوره يضمن سلامة المستهلكين؟