غدير عدنان نصرالدين - خاص الأفضل نيوز
البورصة، ذلك المؤشر الحيوي الذي يعكس نبض الاقتصاد، ليست مجرد ساحة لتداول الأسهم والسندات، بل هي مرآة تعكس التحولات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية التي ترسم ملامح الأسواق العالمية.
فمنذ نشأتها، كانت أسواق المال محركاً أساسياً للنمو الاقتصادي، إذ توفّر منصة للشركات لتمويل مشاريعها، وللمستثمرين فرصة تحقيق أرباح عبر استثمارات مدروسة إلا أن مخاطرها متشعّبة.
ورغم تعدد أنواع الأسواق المالية حول العالم، إلا أن كل دولة تمتلك بورصتها الخاصة، التي تشكّل انعكاساً دقيقاً لوضعها الاقتصادي واتجاهاتها الاستثمارية. وفي ظل حضورها المتكرر في أحاديث الناس، تبقى "البورصة" لغزاً محيراً للكثيرين ممن يسمعون بها دون إدراكٍ حقيقي لمعناها أو أثرها.
فما هي البورصة؟ وما مدى تأثيرها على الاقتصاد والاستثمار؟
تمثّل البورصة منصة مالية متكاملة، حيث تُتداول العملات والمعادن والأسهم بمختلف أنواعها، بما فيها النفط الخام والبترول ومشتقاتهما.
لكن كيف يمكن للأفراد الدخول إلى هذه الأسواق؟ وما هي مخاطرها؟
في هذا الإطار، أوضح مدير محلات "جيلان للذهب"، والمُلمّ في عالم البورصة والتداول، محمد كيلاني، في حديث لـ"الأفضل نيوز"، أن دخول سوق البورصة يتطلب إيداعاً أولياً يُعرف بالرهن أو الضمان، حيث يمكن للمستثمر أن يضع ١٠٠٠ دولار كرأس مال ليتمكّن من تداول مبلغ يصل إلى ١٠٠ ألف يورو، وهو ما يمثل أقل من ١٪ من إجمالي قيمة الاستثمار.
وأشار كيلاني إلى أن الأسواق المالية تتحرك بسرعة، ما قد يؤدي إلى مكاسب أو خسائر تُقدّر بمئة دولار خلال فترة وجيزة لا تتجاوز الساعة.
وفي سياق التحذير من المخاطر المحتملة، نبّه كيلاني إلى أن دخول السوق دون معرفة كافية يؤدي إلى خسائر متكررة، حيث يبدأ المستثمر بخسارة أول ألف دولار ثم تتوالى الخسائر، مما يدفعه للانغماس أكثر في التداول. ونتيجة لذلك، قد ينصرف المستثمر عن عمله الأساسي ليكرّس وقته بالكامل لمتابعة حركة الأسهم والأسواق.
كما لفت إلى دور "الإشارات" أو "السيغنال" في سوق البورصة، حيث يتوهم البعض أنها أدوات تساعدهم على فهم السوق بشكل أفضل، مما يدفعهم للمحاولة المستمرة رغم الخسائر المتراكمة، ما قد يؤدي إلى فقدان السيطرة على قراراتهم الاستثمارية. وبالمقارنة، شبّه كيلاني المضاربات في البورصة بالقمار، حيث يمكن أن تكون الخسائر فادحة رغم الأرباح المغرية.
إضافةً إلى ذلك، أوضح أن العملات الرقمية مثل "البيتكوين" تُعدّ أصولاً وهمية تعرّض المستثمرين لمخاطر غير اعتيادية. كما أشار إلى الشبهة الشرعية التي تحيط بتداول الذهب، حيث يُشترط في المعاملات المالية أن يكون التقابض حاضراً، أي أن يمتلك أحد الطرفين المال والآخر الذهب، بينما في البورصة، يتم التداول دون أن يمتلك المستثمر الأصل المالي فعلياً.
من جهة أخرى، سلّط كيلاني الضوء على غياب الضوابط الرقابية لدى بعض الشركات التي تُتيح فتح حسابات تداول عبر الإنترنت دون قيود أو متابعة.
واستذكر حادثة لأحد المتداولين في العملات الرقمية، الذي تراكمت عليه الديون حتى أقدم على الانتحار، بالإضافة إلى مستثمرين فقدوا ملايين الدولارات في سوق "الكريبتو" مؤخراً، ما دفعهم إلى الخروج من السوق نهائياً.
ما هو الوجه الشرعي للبورصة؟
شرح كيلاني أنه وبالنظر إلى التداول في سوق البورصة من منظور شرعي، يعتمد بعض تجار الذهب على آليات الحماية المالية لضمان استقرار معاملاتهم. فعندما يقوم صاحب متجر الذهب ببيع أونصات للعملاء، لا يكون بإمكانه شراء الكميات المطلوبة مباشرة من تاجر الجملة، وإنما يلجأ إلى عقود التحوط (Hedge) عبر البورصة لحماية مركزه المالي.
على سبيل المثال، عند بيع خمس أونصات، يقوم بشراء الكمية نفسها من خلال حسابات البورصة ضمن مدة قصيرة، بهدف تأمين موقفه التجاري ومنع أي خسائر محتملة. وبعد تراكم كميات الذهب لديه—بما يعادل عشرة إلى خمسة عشر أونصة أو أكثر—يتجه حينها لشراء الذهب الفعلي من تاجر الجملة وبيعه مجددًا عبر البورصة، مما يضمن الحفاظ على مركزه المالي وفق الضوابط الشرعية.
كما أكد أن هذا المجال ليس مفتوحًا للجميع، بل يتطلب إلمامًا عميقًا بالاستراتيجيات الأساسية (Fundamental Strategies) والتحليل الفني (Technical Analysis) وحركة الأسواق السنوية وغيرها من العوامل المؤثرة. ومن المؤسف وجود عدد كبير من الأشخاص الذين يفتقرون إلى المعرفة اللازمة، في ظل غياب الضوابط التنظيمية في لبنان وخارجه، ما يؤدي إلى خسائر كبيرة، مضيفاً أن سوق الذهب يشهد نشاطًا مكثفًا لمئات المتداولين، سواء كانوا محترفين أو مبتدئين، حيث تصل نسبة الخاسرين إلى ما بين 90 و95%، فضلًا عن الضغوط النفسية والديون التي يتكبدها البعض، إذ توجد حالات مدينين بمبالغ تتجاوز المليون دولار.
ولفت إلى أن من بين 200 إلى 300 متداول، لا يحقق الأرباح سوى اثنين أو ثلاثة، في حين يتكبد البقية خسائر فادحة.
أُسُس التداول الآمن وتحذيرات الاستثمار غير القانوني
شدد كيلاني على ضرورة وجود أسس ثابتة لمن يرغب في دخول عالم التداول، مؤكدًا أنه لا ينصح أي شخص غير ملم بأساسيات السوق بدخول هذا المجال. وأوضح أن من يملك المال ولا يستطيع حمايته، يمكنه الاستثمار بطريقة مدروسة، مثل شراء الأسهم في شركات النفط التي تُعد أكثر استقرارًا، بشرط امتلاك السهم فعليًا عبر الإيداع وإنشاء محفظة استثمارية، وهو ما يعتبره ذو وجه شرعي. وفي المقابل، حذّر من الاستثمار في أسهم شركات مرتبطة بكازينوهات القمار، حيث لا يُمكن التداول فيها وفق الضوابط الشرعية. وأشار كيلاني إلى وجود مكاتب غير قانونية تقوم بفتح حسابات وهمية للمستثمرين، حيث يجمعون أموالًا ضخمة دون تمرير العمليات في البورصة العالمية، ما يؤدي إلى عمليات احتيال منظمة.
دعوة لضوابط صارمة في سوق التداول: بين الحذر والمخاطر
أنهى مدير محلات "جيلان للذهب"، محمد كيلاني، حديثه بدعوة الدولة إلى فرض ضوابط صارمة لتنظيم سوق البورصة، مشددًا على المخاطر الكبيرة للتداول العشوائي، مؤكداً على ضرورة توخي الحذر، موصيًا بوضوح بأن من لا يمتلك الذهب أو الفضة أو العملات والأسهم نقدًا، فالأفضل أن يبقى بعيدًا عن التداول. فالدخول إلى هذا العالم المجهول قد يجعل الخروج منه بالغ الصعوبة. كما نبّه الشباب إلى مخاطر الانجرار وراء التداول العشوائي، مبرزًا إمكانية تحوّله إلى إدمان خطير، حيث يجد المبتدئون أنفسهم في مواجهة مباشرة مع صناع السوق الذين يتحكمون في حركة التداول، ما يجعل تحقيق الأرباح تحديًا كبيرًا، وقد يتسبب في خسائر فادحة تهدد الاستقرار المالي وحتى حياة المتداول.
في المحصلة، تبقى البورصة مجالاً يستقطب اهتمام المستثمرين، لكن في ذات الوقت ينطوي على مخاطر جمة تحتاج إلى كثير من الحذر، فعدم وجود معرفة وخبرة سابقة قد يؤدي إلى جعل التداول مغامرة غير محسوبة، خصوصاً أن خسارة المبتدئين أمام الأسواق الكبيرة بات سيناريو يتكرر كثيراً في الفترة الأخيرة، حيث يبقى الالتزام بالضوابط والاستراتيجيات المدروسة السبيل الوحيد للنجاح في هذا المضمار المالي المعقد.