نبيه البرجي – خاصّ «الأفضل نيوز»
لأنّنا احترفنا فلسفة البُعد الواحد في تعاملنا مع "الظاهرة الإسرائيليّة"، ذهبت بنا السّذاجة حدّ الاعتقاد بأنّ جنون بنيامين نتنياهو يمكن أن يتوقّف عند غزّة، ولبنان، وسوريا (لاحظوا القضم التّدريجي والمنهجيّ للأرض). المسألة لا تنحصر في رجلٍ، وإنّما في ذلك النّوع من العناكب البشريّة التي تمكّنت من التّسلّل، وبكلّ الوسائل المكيافيليّة، إلى الطّبقات العُليا من الكرة الأرضيّة. لا داعي للأشعّة الحمراء لنرى دورها في البيت الأبيض، وفي الكابيتول، وفي وول ستريت، وحتّى في هوليوود، وصولًا إلى سائر أرجاء الدولة العميقة في الولايات المتّحدة.
هكذا فعلوا في إنكلترا، الإمبراطوريّة التي لم تكن تغيب عنها الشّمس، حتّى أنّ "البوريتانز" (الطهرانيّين) الذين توجّهوا ـ في ستينيّات القرن السابع عشر، وغداة هزيمة كرومويل وعودة الملكيّة ـ إلى العالم الجديد، حاملين على ظهورهم كلّ التّراث التّوراتي، كانوا يرون في إنكلترا "إسرائيل الإنكليزيّة".
هذا لم يُؤثّر في حضورهم النّافذ على الأرض البريطانيّة، لنشهد في منتصف القرن التّاسع عشر تلك الخطوة التي قام بها رئيس وزراء بريطانيا اللورد بالمرستون (بالتّواطؤ مع البارون روتشيلد) لتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين، وتوطين مجموعة سكانيّة غريبة، موثوقة الولاء، في هذه المنطقة الاستراتيجيّة على طريق الهند. وهكذا ظهرت، عام 1858، على يد "أحبّاء صهيون"، أوّل المستوطنات اليهوديّة.
بالتّزامن، بدأ الاستيطان اليهوديّ في العقل السياسيّ الأميركيّ، حتّى أنّ ناحوم غولدمان، وهو أحد آباء الدولة، قال في يوميّاته: "لولا الرّئيس وودرو ويلسون، لما كان وعد بلفور"، لتبدأ عمليّة التمدّد العاصف داخل مراكز القوّة في الولايات المتّحدة، خصوصًا عقب انعقاد المؤتمر اليهوديّ، عام 1941، في فندق بلتيمور النيويوركيّ، وبعد رفض فرانكلين روزفلت استقبال وفدٍ من المؤتمر لينقل إليه معاناة اليهود في ظلّ الرايخ الثّالث في ألمانيا.
دائمًا، الاختراق الماليّ، والأيديولوجيّ، للرؤوس الكبيرة، وهذا ما حصل في الولايات المتّحدة. إنّها ظاهرة هائلة حقًّا حين نجد مدى تغلغل اليهود في المؤسّسة الدّبلوماسيّة، والمؤسّسة الماليّة الأميركيّة، إلى الحدّ الذي جعل من أميركا "إسرائيل الكبرى"، ومن إسرائيل "أميركا الصغرى". ثمّة حالة يهوديّة، مثلما هي عابرةٌ للأزمنة، هي عابرةٌ للأمكنة. أيضًا، عابرةٌ للأدمغة. ولقد لاحظنا مدى الضّغوط التي تعرّض لها كونراد أديناور، كأوّل مستشار ألماني بعد الحرب العالميّة الثانية، للتّوقيع على اتّفاقيّة لوكسمبورغ، عام 1952: التّعويض على إسرائيل، باعتبارها الدولة التي تمثّل يهود العالم، بالمال والسّلاح، حتّى أنّ الأسطول الإسرائيليّ يعتمد على غواصات "دولفين" الألمانيّة، والتي تمّ تعديلها تقنيًّا لحمل رؤوس نوويّة.
ها نحن أمام دولةٍ ترى في نفسها "حالةً إلهيّة"، كائناتٍ بشريّة فوق أيّ كائناتٍ بشريّة أخرى، ليسخر من ذلك الموسيقيّ الألمانيّ الشّهير ريتشارد فاغنر، صاحب سمفونيّة "غروب الآلهة"، بقوله: "هؤلاء الذين يظنّون أنّهم خُلقوا من الذهب لا من الطّين".
لا التّظاهرات التي يشارك فيها مئات الآلاف، ولا حالات الرّفض داخل المؤسّسة العسكريّة، تمكّنت من أن تهزّ بنيامين نتنياهو، وهو على عرشه، يلاعب دونالد ترامب (أم أنّ دونالد ترامب هو الذي يلاعبه؟) بتلك المسرحيّة السّاذجة فوق ظهور العرب. إنّه المراوغ المحترف. الوزير السّابق يوسي ساريد كان يرى في رأسه رأس الأفعى. هكذا تمكّن أن يوحي لغالبيّة الإسرائيليّين بأنّ بقاء إسرائيل رهنٌ ببقائه في السّلطة، وهذا رأي زوجته سارة التي ترى في نفسها نسخة عن سارة، زوجة إبراهيم، وفي رئاسة زوجها للحكومة "ولادة إسرائيل الثانية"، كمدخلٍ إلى "إسرائيل الكبرى".
كنّا قد رأينا فيه الرّجل الذي سقط في المتاهة الفلسطينيّة لعدم امتلاكه أيّ رؤيةٍ لليوم التالي، ليبدأ من هنا مسار سقوطه عن الخشبة، وهذه هي الهوّة التي يسقط فيها أيّ قائدٍ سياسيّ، أو قائدٍ عسكريّ، لا يرى أبعد بكثير من الغبار الذي تتركه الحروب. وكان أن اتّصل بنا دبلوماسيٌّ مصريٌّ مخضرم ليقول: "لقد التقيت أكثر من مرّة بأركان اليمين في إسرائيل، وخبرتهم كما خبرت أصابع يديّ، لأكتشف أنّهم يراهنون على اللّحظة الذّهبيّة لإقامة إسرائيل الكبرى، بدءًا من ترحيل سكّان الضفّة والقطاع".
وكنتُ قد رأيتُ المؤرّخ الإسرائيليّ شلومو ساند، مؤلّف كتاب اختراع الشّعب الإسرائيليّ، على شاشةٍ فرنسيّة، وهو يقول إنّ آرييل شارون انسحب من قطاع غزّة، دون أن يعقد الصّلح مع حركة "حماس"، من أجل الوصول إلى ما هو عليه الوضع اليوم.
لكنّ الإصرار على ارتكاب تلك المجازر بدأ يدقّ على رؤوس القادة الأوروبيّين، وهم يشاهدون ظهور "الفوهرر اليهوديّ". على امتداد هذه الحرب، لاحظنا كيف أنّ المستشار السّابق أولاف شولتز ألقى بكلّ ذلك التّراث الفلسفيّ الألمانيّ الهائل في سلّة المهملات، ليمضي هستيريًّا في سياسة الدّعم المطلق للدّولة العبريّة. وها نحن أمام مستشارٍ آخر، فريدريش ميرتس، وموقفٍ آخر: "يجب على الحكومة الإسرائيليّة ألّا تفعل شيئًا لم يعد أصدقاؤها مستعدّين لقبوله"، متسائلًا ما إذا كانت إسرائيل تنتهك القانون الدّولي، أخذًا بالاعتبار أنّ ألمانيا ثابرت على تنفيذ النّظريّة المعروفة بـ Staatsraison، والتي تعني الرّبط بين المصلحة الوطنيّة للدّولة والالتزام بالعلاقة الوثيقة مع إسرائيل.
نتوقّف أيضًا أمام كلام وزير الخارجيّة الألمانيّ يوهان فادفول: "لا نتضامن مع إسرائيل بالإجبار". لكنّ مسلسل الدم على تصاعده. أقوالٌ كثيرة، وأفعالٌ قليلة، ريثما نرى إلى ماذا يمكن أن ينتهي إليه المؤتمر الذي دعت إليه فرنسا والسعوديّة حول مسألة الدّولة الفلسطينيّة، ما بين 17 و20 حزيران الجاري، وحيث قد تعلن الدّول الأوروبيّة الكبرى إقرارها بتلك الدّولة.
ولكن ماذا عن الضفّة الأخرى من الأطلسي؟ ترامب يفرض عقوبات على قضاة المحكمة الجنائيّة الدوليّة لأنّها أدانت نتنياهو وأصدرت بحقّه مذكّرة توقيف، كما أمر مندوبة الولايات المتّحدة في مجلس الأمن باستعمال حقّ النّقض (الفيتو) ضدّ مشروع قرار يقضي بوقف الحرب في غزّة، دون أن يتوقّف يومًا عن إمداد الجيش الإسرائيليّ بالقنابل ما قبل النوويّة، والأكثر فتكًا بالفلسطينيّين، ودون أن نغفل ما يجري في لبنان أيضًا.
في رأي أستاذة جامعيّة فلسطينيّة في كندا، هي بيسان عبيد: "من يراهن على فكّ العلاقة بين أميركا وإسرائيل، كمن يراهن على صخرة سيزيف". الاختبار الأخير لدونالد ترامب حيال العرب بعد أيّامٍ من الآن. أطرف ما قرأناه للسّيناتور بيرني ساندرز: "هل رأيتم فيلًا يغيّر أذنيه؟". كذلك، لم نرَ ذئبًا بأجنحة فراشة…!!