د.رائد المصري - خاصّ الأفضل نيوز
تعيش المنطقة هذه الأيام مرحلة ضاغطة، عبر ثلاث تأزمات ومخاضات صعبة، تمر بها كل من إيران ولبنان والكيان الإسرائيلي، في ظلِّ الضغط العربي والدولي المستمر على لبنان خارجيا وداخلياً، من خلال التبرُّم والامتعاض من أداء الحكومة ورئيسها، بالتلكؤ في البدء بإعادة الإعمار بعد وقف الحرب، بالإضافة إلى جملة الإصلاحات المالية والاقتصادية، والتعيينات التي بدأت تنذر بتفكيك التلاحم الوطني حول الحكومة والعهد الجديد، والذي لم يدخل المرحلة الجدية والحاسمة، خاصة أن التعيينات لا تزال تحتكم إلى منطق التحاصص الطائفي والمذهبي، وهو ما شكل "نقزة" شعبية بدأت تتوسَّع وتكبر، وكلها بالأصل قضايا متعلقة بشكل أو بآخر بحرب غزة، التي لم تنتهِ بعد رغم طلب الرئيس ترامب من نتنياهو بإنهائها فوراً، ورغم تقدم ملف التفاوض النووي مع طهران، ووصوله مرحلة بالغة التعقيد، بالسير على حبل رفيع على وقع تطورات المنطقة، ومحاولة خلق متغيرات يمكن البناء عليها مستقبلاً.
لذلك، تأتي زيارة مبعوث الرئاسة الفرنسية جان إيف لودريان، ولبنان في مرحلة وزمن مغايرَين تماماً عن زيارته الأخيرة، وهي محمّلة بأفكار كثيرة وملفّات متشابكة، من أبرزها التمديد لقوات اليونيفيل، والذي شهد ملفه مؤخراً تجاذبات واختلافات على الدور والوظيفة، ومؤتمر إعادة الإعمار وتطبيق القرارات الدولية، وهي متطلبات باتت السلطة اللبنانية بحاجة إلى مزيد من الوقت، بغية إنجازها والسير بها، من دون تقيديم أية تنازلات مجانية، تتيح لإسرائيل التمسُّك بها والبناء عليها، وتدفيع البلد الأثمان الكبيرة، رغم ما يعترض نتنياهو وحكومته من أزمات داخلية صار صعباً عليه التخلص منها بسهولة.
فائتلاف نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة يعيش أزمة حقيقية، مع تهديد الأحزاب الحريديّة بالانسحاب من الحكومة، وحلّ الكنيست، إذا لم يتم تمرير قانون إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، وتخصيص الميزانيّات المطلوبة للمعاهد الدينية التابعة لها، كما تمارس الأحزاب الحريديّة ضغوطاً على نتنياهو والائتلاف الحكومي لتمرير قانون الإعفاء، في وقت حساس للغاية، نظراً لعدم وجود خيارات كثيرة أمامه سوى الرضوخ لها، نظراً لازدياد الضغوطات الداخلية عليه، بسبب الحرب على غزّة والمطالبة بصفقة تبادل، والضغوط الدولية لوقف الحرب على غزّة وإدخال المساعدات، مقابل عدم قدرته على الذهاب لانتخابات مبكرة، بعد أن تراجعت شعبيّته وبات عاجزاً عن المحافظة على أصوات ائتلافه، وهو ما سيقوده لخسارة منصبه والبدء بالتفرغ للمحاسبة والملاحقة، ولذلك يشير الإعلام الإسرائيلي إلى اعتماد نتنياهو عدّة مسالك لمواجهة هذه الأزمة، منها الضغوط الأميركية التي قام بها السفير الأميركي لدى إسرائيل مايك هاكابي، في اتّصالاته بقادة من اليهود الحريديم، وكانت بمثابة تدخّل أميركي في الساحة السياسية الإسرائيلية، وهو ما أشارت إليه القنوات الإسرائيلية، ومن خلال السفير الأميركي الذي أبلغ قادة من الحريديم بأنّ استقرار الحكومة ضروري لمواجهة إيران، معتبراً أنّ إجراء انتخابات في هذه المرحلة يُعدّ خطأً، بحسب المصدر الإعلامي الإسرائيلي.
أمّا المسار الآخر فهو تكثيف نتنياهو وحزب الليكود الاتّصالات مع الأحزاب الحريديّة لمنعها عن السير في مشروعها، مع مسار آخر يرافقه متمثلاً بعزم أحزاب الحكومة، تقديم عشرات مشاريع القوانين للنقاش في البرلمان، في محاولة لتأجيل التصويت بقراءة تمهيديّة، على مشروع قانون حلّ الكنيست، فصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية كشفت أن الائتلاف الحاكم، سيضع على جدول أعمال البرلمان 50 مشروع قانون، من أجل كسب مزيد من الوقت قبل التصويت على حلّ الكنيست في قراءة تمهيديّة، حيث أنه من المتوقّع أن يجري نتنياهو محادثات لمنع الحريديم من التصويت لحلّ الكنيست، بينما أصدر رئيس حزب معسكر الدولة المعارض بيني غانتس تعليمات لحزبه، بسحب كلّ مشاريع القوانين التي بادر إلى تقديمها للبحث، باستثناء مشروع قانون حلّ الكنيست، وذلك لتقليص جدول الأعمال، وهذا ما يجعل نتنياهو غارقاً في أزماته الداخلية وحروبه الخارجية ولا يعرف طريق الخروج منها أو كيفية معالجتها.
أما على الجانب الإيراني، فقد أصغت واشنطن لكل متطلبات طهران، في ما يتعلق بملف التفاوض حول النووي، وتمَّ ابتكار الكونسورتيوم الذي يخصّب اليورانيوم في الخارج، ويزوّد إيران به وقوداً لبرنامجها، وهو ما لاقى استحساناً لدى القادة الإيرانيين، مفضلة أن يكون مركز الكونسورتيوم ورشة داخل الأراضي الإيرانية، لكن قمة التعقيدات هي في الاقتراح الأميركي أن تتوقف طهران نهائياً عن التخصيب، أو أن يكون لإيران الحقّ في التخصيب كمكسب معترف به مع وقف التنفيذ.
قد تستنتج طهران أنّها دخلت مع واشنطن في مصطلحات وحلول ديبلوماسية، صارت أقرب إلى الواقع السياسي التفاوضي، وهنا يمكن القول إنّ إيران ذاهبة إلى اتفاق مع إدارة ترامب، ومن يراقب بتمعُّن النقاط والتفاصيل وجردها في نصوص الاتفاق والتفاوض، يمكنه ملاحظة أنّ طهران تركّز على بند وقف العقوبات، والإفراج عن ودائعها في الخارج، الذي تعتبره مكسباً استراتيجيّاً كبيراً، فيما تنشط الولايات المتحدة لتسجيل نصر ضدّ التخصيب، يكون مكسباً لترامب وإدارته، فيما يعوّل نتنياهو على فشل المفاوضات ويلوّح سلفاً بالإعداد لضربة ضد إيران ومفاعلاتها، ويعوّل ترامب العائد من جولة خليجية على صفقة تجنّبه وتجنّب المنطقة حرباً لا نتائج مأمونة لها، ولذلك يتنقّل وزير خارجية إيران عباس عراقجي بين عواصم المنطقة، فقبل بيروت زار القاهرة وأشاد بالعلاقة الممتازة مع الرياض، مدافعاً عن حقّ بلاده في التخصيب، ومبدياً استعداده لمدِّ جسور التواصل مع الجوار، والإيمان بالعلاقة من دولة إلى دولة، وهذا كفيل بدوره لترميم الصورة المنكسرة، مما أصاب لبنان بالحرب الوحشية الإسرائيلية عليه وانعكاساتها، وهو ما يتطلب أيضاً الثبات على وحدة الموقف اللبناني الرسمي والشعبي، لتكريس حضور الدولة وتعزيز سيادتها، وتثبيت الثقة والشرعية في أدائها، وهذا وحده كفيل بإعادة التوازن إلى السلطات كلها، وإلى دور لبنان الوازن في المنطقة..