د.رائد المصري - خاصّ الأفضل نيوز
يُراد اليوم لِلبنان الاستعجال واللَّحاق بركْب التطبيع، وكأن الأمور قد استقرَّت على يد الإسرائيلي في المنطقة، بعد الحروب التي شنَّتها تل أبيب في غزة وعلى لبنان وسوريا، وآخرها إيران، والتي لم تُحسم فيها أي معركة أو حرب حتى اليوم، لفرض وقائع ورسم دوائر نفوذ سياسية وأمنية، وهذا ما يعزِّز حالة اللايقين واللا استقرار، بالنسبة لهذا البلد الذي يعجُّ بمتناقضات وتباينات ورهانات خارجية وداخلية، بعد أن وضع طوماس باراك الأفخاخ على الصفيح اللُّبناني الساخن، وإعطاء مسارين لا ثالث لهما لبيروت، إما الانصياع والدخول في شراكة مع دمشق في عملية التطبيع الهادئة الجارية في المنطقة، وإما أنكم ستُتركون على قارعة الطريق كــ"ملطشة"، وهذا ما شهدناه في رسالة الرئيس السوري الجديد، برفع سقف التحديات واتخاذ إجراءات تصعيدية ضد لبنان، في شأن ما يتعلق بالموقوفين السوريين في السجون اللبنانية، وهذا يضرب صُلب عمل المؤسسات القضائية في لبنان، رغم التعثُّر الحاصل فيها، لكن في لبنان هناك قانون وإجراءات قانونية، لا بدَّ من اتباعها مع الإقرار بحق الموقوفين الذين طالهم ظلم القضاء وتعثُّره وتفكُّكه في لبنان، بسبب ظروف كثيرة خارجة عن إرادة أهل السلطة الجديدة الممسكة بالقرار السيادي.
إذن، لا حروب منتهية في المنطقة، أفرزت نتائجها ومهَّدت لتسويات سياسية، يمكن قطف ثمارها أو تقريشها في الداخل اللُّبناني بعد، رغم استعجال بعض القوى السياسية، لجنْي الأرباح لتضخيم ونفخ البالون المذهبي والطائفي، وتسطير استقطابات سياسية حادة، بوجه حزب الله أو الثنائي لتطويعهما، وجرِّهما إلى تنازلات على الطريقة الأميركية في محاولة ضرب فوردو النووي للكسْب السريع، والركض سريعاً لتعديل قانون الانتخابات، وقطف ثمار المغتربين، لأنهم باتوا عاجزين عن أي تغيير عبر الحالة الشعبوية المحلية، التي انجرَّت كثيراً خلف هذا الإقطاع السياسي، وتمَّ حشد طاقاتها من دون نتيجة تُذكر، ولا يمكن الرهان على قوة الإسرائيلي المتوحشة في الضرب والاعتداء على الشعب اللبناني وسيادته، لكن لبنان وكما المنطقة العربية والإقليمية، لا يخضع للأهداف الأميركية والإسرائيلية نفسها، فبينما يريد نتنياهو استكمال حربه في غزة، وهو الذي أوقف حربه على إيران بضغط من ترامب، يهدف الأخير لترتيبات إقليمية تَصوغ عهداً للاستقرار يمهّد للسلام المنشود.
ولبنان الذي جنّبه الأميركيون ضربات كبيرة، وبدؤوا في صياغة بناء سياسي واقتصادي، يواجه اليوم لحظة مفصلية من تاريخه، وَسَط تعقيدات داخلية خانقة وتطورات إقليمية متسارعة، فالأزمات الاقتصادية المتلاحقة، والانقسام السياسي، والجمود في مؤسسات الدولة، تأتي جميعها في ظل بيئة إقليمية مضطربة، تجعل من لبنان ساحة محتملة لتصفية الحسابات بين أطراف الصراع في المنطقة، وفي هذا السياق، تبرز التحذيرات الأميركية المتكررة، خصوصاً على لسان المبعوث الأميركي الخاص توماس بارّاك، باعتبارها إشارات إنذار جديّة، تستدعي من القيادة اللبنانية أعلى درجات الوعي والتحرّك السريع، خصوصاً أنه لن يكون عرضة لحرب كبيرة مقبلة لا تريدها واشنطن، إلّا أنَّ هذا لا يعني أن المطلوب سيتحقق تحت وهْم التطبيع، وهو ما سيسمح لإسرائيل باستهدافه حتى أمد غير محدود، وربَّما حتى الانتهاء من ولاية نتنياهو إذا ما حصلت، وستكون الكرة في الملعب الأميركي لضبط العدوان الإسرائيلي على لبنان ومداه، ومن يدقِّق في كلام المبعوث الأميركي طوماس باراك في زيارته اللبنانية الأخيرة، يمكن له أن يستشرف بعض ما قد يحصل للبنان مستقبلاً، وباختصار فإنَّ المنطقة أمام تحديات متسارعة، والأنظار يجب أن تتوجَّه دوما نحو مفاوضات غزة، التي ستحدّد الكثير لمستقبل العرب.
إذن، لبنان سلّم ردّه وبارّاك أنهى زيارته بأجواء مريحة، واعداً بالعودة بعد أسبوعين، وقبلها سيطلع إدارته التي استضافت حليفها نتنياهو، وما بين المرحلتين، تتقدم العديد من الأسئلة وحالة من الريبة، حول ما ستحمل أجواء ما قبل عودته من تصعيد، ولا سيما أن رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي طلب ضوءاً أحمر من واشنطن، لتصعيد اعتداءاته بأهداف جديدة، هي أقل من حرب شاملة، وأكبر من خروقات جوية معتادة.
وفي ذروة التوتر الإقليمي، يقف لبنان مجددًا على حافة تحول سياسي وأمني مِفصلي، عنوانه هذه المرة عرض أميركي مشروط ، لضبط النظام اللبناني، يأتي في سياق ضغوط مفتوحة وتهديدات مباشرة، بين ما يُسمى المسار الديبلوماسي، الذي أطلقه الموفد الرئاسي الأميركي طوماس بارّاك، في زيارته التي بدت على قدر عالٍ من التنسيق مع البيت الأبيض والبنتاغون، وحملت في طياتها ما يتجاوز مجرَّد الرغبة في تسوية أمنية موقتة ومرحلية بين لبنان وإسرائيل.
لكن خلف عبارات التهدئة، تتكشَّف نوايا أكثر عمقاً، وهو مشروع إعادة هيكلة للمشهد اللبناني، أمنياً وسياسياً، يبدأ من الجنوب، ولا ينتهي عند حدود تطبيق اتفاق الطائف، فالأميركيون وفق ما نقلته مصادر مطّلعة وحصل عليها "الأفضل نيوز"، يعتبرون أن حزب الله لا يجب أن يشكل أي حالة تهديد دائمة لأي صيغة استقرار في الإقليم، خصوصاً بعدما دخلت غزة في لعبة المساومات، وبدأت سوريا خطوات تفاوض مباشرة مع إسرائيل، ويعلم الحزب جيداً المتغيرات الكبرى في موازين القوى في الشرق الأوسط، وكما تصرّف منذ تأسيسه بذكاء ومرونة، فهو يُظْهِرُ إستعداداً مبدئياً للتغيير، لكن من دون التخلِّي الكامل عن سلاحه، شريطة أن يتمكَّن من تحقيق مكسب سياسي كانسحاب إسرائيلي من جنوب لبنان، ووقف الغارات، وضمانات دولية للمحافظة على السيادة اللبنانية، وعلى الرغم من التصريحات النارية إزاء الخارج، والتي تتحدث عن ضرورة الصمود، فإن حزب الله يُجْرِي نقاشات داخلية بشأن إمكانية تغيير دوره، ففي نظر مؤيدي محور المقاومة، إن نزْع سلاح حزب الله يعني إنهاء ما تبقّى من قدرة الرّدع اللبنانية، وفتْح الباب أمام غزوات إسرائيلية مستقبلية، وترْك جنوب لبنان مكشوفاً، وهنا وَجَب على الشعب اللبناني أن يسأل نفسه، عن الثمن الذي يجب أن يدفعه في مواجهة العدو، والمقارنة بين ثمن المقاومة وثمن الإستسلام.. فالمقاومة مؤلمة، لكن الاستسلام قاتل.