د. علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
بعيدًا عن التفكير العاطفي الذي يتحكم في مقاربة ونظرة القوى، ووسائل الإعلام، والجهات الحزبية، وحتى الرسمية، المناهضة والمعادية للولايات المتحدة، تجاه قوة الصين ودورها السياسي والدبلوماسي ونفوذها المستقبلي، والذي يُروَّج له بحماس من جانب هؤلاء كبديل للوجود الأميركي، فإن الواقع والمعطيات والقرائن كلّها تدلّ على أن بكين لا تزال طرفًا انتهازيًّا في الشرق الأوسط، مدفوعة باحتياجات عملية، لا بطموحات للهيمنة على المنطقة.
زد على ذلك، أن الصين لا تزال مقيّدة بعدم القدرة أو الرغبة في تولّي موقع المُهيمن والشرطي في الشرق الأوسط، كما أنها، حتى الآن، تفتقر إلى القوة الفعلية التي تمكّنها من تهديد المصالح الإقليمية الأميركية بشكل فعلي، ما يجعل تأثيرها محدودًا.
الصين والنظرة إلى الشرق الأوسط:
المصالح النفطية والتجارية أولًا
بالنسبة إلى الصين، يُعدّ الشرق الأوسط سوقًا مهمًّا للطاقة وتصدير سلعها المتنوعة، في المقام الأول. ولهذا، تشكّل المصالح الاقتصادية المحرّك الرئيسي لسياسة بكين تجاه المنطقة، كما أنها تُحدّد معايير أشكال أخرى من انخراط الصين الإقليمي مع دول وشعوب تلك البقعة الجغرافية من الكرة الأرضية.
وبناءً على ذلك، يُمثّل النفط محور المصالح الاقتصادية للصين في الشرق الأوسط، إذ أصبحت أكبر مستورد صافٍ للنفط في العالم عام 2012، لتتجاوز بذلك الولايات المتحدة في عام 2017، وتتحوّل بالتالي إلى أكبر مشترٍ للنفط من المنطقة (والأرقام تعود لمركز Cato البحثي الأميركي).
اللافت في الأمر أن ما يقرب من نصف احتياجات الصين من النفط مصدره الشرق الأوسط، إذ استوردت في عام 2023 وحده، حوالي 5.2 مليون برميل يوميًّا (بحسب شهادة أمام لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأميركية الصينية في نيسان 2024). ومن المتوقع أن تستورد بكين أيضًا أكثر من 80% من مشتقاتها النفطية، وتتفوق على الولايات المتحدة لتصبح أكبر سوق للنفط في العالم بحلول عام 2030.
لكن، مهلًا، النفط ليس العنصر الوحيد في توسّع البصمة الاقتصادية للصين في الشرق الأوسط. فالمنطقة تُعدّ سوقًا مربحة للصادرات الصينية، وللتجارة الثنائية بشكل عام. وتبعًا لذلك، تفوّقت الصين على الولايات المتحدة لتصبح أكبر شريك تجاري للمنطقة في عام 2014.
وفي عام 2023، حققت الصين قفزة نوعية، إذ بلغ إجمالي التجارة الثنائية مع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حوالي 470 مليار دولار. كما تجاوز حجم التجارة بين الصين والدول العربية وحدها 400 مليار دولار في عام 2024، وفقًا لرن هونغ بين، رئيس المجلس الصيني لتعزيز التجارة الدولية، الذي كشف خلال الدورة الحادية عشرة لمؤتمر رجال الأعمال الصينيين والعرب، عن أن "حجم التجارة بين الصين والدول العربية ارتفع من 36.7 مليار دولار في عام 2004، إلى أكثر من 400 مليار دولار في عام 2024، أي بزيادة تفوق عشرة أضعاف خلال 20 عامًا."
الدبلوماسية الصينية: نظرية وفارغة
بعكس المشاركة الاقتصادية الفاعلة وغير المسبوقة للصين في الشرق الأوسط، فإن التأثير السياسي والدبلوماسي يبقى ضئيلًا لا يتناسب وحجم لقب "العملاق الآسيوي". وانطلاقًا من ذلك، تتميّز الكثير من المواقف الدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط بكونها مجرّد خطابات رمزية فارغة، دون رغبة – أو قدرة – على صياغة النتائج أو إنفاذ الاتفاقيات،
فبكين لا ترغب في إنشاء أو دعم نظام سياسي جديد في الشرق الأوسط، كما أنها تحاذر الانجرار إلى صراعات المنطقة، وتسعى جاهدًة لتجنّب التورط في سياساتها. فهي تستفيد أكثر عبر تحاشي هذه التشابكات السياسية، وتُبعد نفسها إلى حدٍّ كبير عن صراعات القوى الإقليمية.
من هنا، ومقابل غياب التحالفات الرسمية، حافظت بكين على سلسلة من الشراكات المتعددة المستويات، منها "شراكة استراتيجية شاملة" مع كل من: الجزائر، مصر، السعودية، الإمارات، البحرين، إيران؛ و"شراكة استراتيجية" مع عُمان، المغرب، قطر، الكويت، العراق، الأردن، السلطة الفلسطينية؛ إضافة إلى "تعاون استراتيجي" مع تركيا؛ و"شراكة شاملة مبتكرة" مع إسرائيل.
إلى جانب ذلك، أكدت بكين على الدبلوماسية بدلًا من القوة العسكرية في أول وثيقة سياسة عربية -صينية – وُضعت عام 2016 – قُدّمت كإطار توجيهي لنهج بكين في الشرق الأوسط، حيث شدّدت على احترام "السيادة والسلامة الإقليمية"، والحاجة إلى "مكافحة التدخّل والعدوان الخارجي".
كما ركّزت العلاقات بين الصين والشرق الأوسط على ما تسميه "التعاون الرابح للجميع"، وإرساء "أمن مشترك وشامل وتعاوني ومستدام في الشرق الأوسط"، بقيادة الفاعلين الإقليميين، وليس الخارجيين. كذلك شدّدت الوثيقة على المصالح الاقتصادية للصين في المنطقة، وقدّمت نموذج التعاون "1+2+3"، الذي حدّد أولويات بكين بالآتي: التعاون في مجال الطاقة؛ والبنية التحتية، والاستثمار، والتجارة؛ والطاقة النووية، وتكنولوجيا الأقمار الصناعية، والطاقة المتجددة.
علاوة على ذلك، تحافظ بكين على التواصل مع مختلف الأطراف في الشرق الأوسط، بما في ذلك شركاء الولايات المتحدة وخصومها على حدٍّ سواء. ولهذا، تُجزّئ سياساتها الإقليمية، وتمتنع عن الانحياز في أشدّ النزاعات الجيوسياسية في المنطقة، وهذا الأمر ظهر بوضوح أثناء الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران.
الصين وإيران: السياسة الاستعراضية
في الواقع، وبخلاف ما يظنّه البعض، لا تُعطي بكين الأولوية لعلاقتها بطهران على حساب دول المنطقة الأخرى. فالروابط مع السعودية والإمارات العربية المتحدة تفوق بكثير علاقاتها مع إيران. زد على ذلك، أن بكين لم تقف مع طهران في قضايا حرجة، مثل برنامجها النووي، بل صوّتت لصالح سبعة قرارات تُطبّق عقوبات تستهدف البرنامج النووي الإيراني.
ليس هذا فحسب، فقد دعمت الصين اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) مع إيران، وضغطت على طهران للتفاوض مع الولايات المتحدة. ولهذه الغاية، فإن فكرة وجود محور صيني–إيراني في الشرق الأوسط، مجرّد وهم.
ضع في اعتبارك، أن جمهورية الصين الشعبية لطالما سعت، بشكلٍ متزايد، إلى تصوير نفسها كوسيط محايد وصانع سلام في المنطقة. ومع ذلك، فإن المبادرات الدبلوماسية التي تطرحها بكين في الشرق الأوسط تُعدّ شكلًا من أشكال "السياسة الاستعراضية"، أي خطابات رمزية وأفعال تفتقر إلى الجوهر.
فالصين تختار القضايا الدبلوماسية السهلة في المنطقة، فيما تفتقر استعراضاتها الدبلوماسية إلى العمق الحقيقي، ناهيك عن غياب الاستعداد أو القدرة على صياغة نتائج ملموسة أو فرضها. وخذ مثلًا على ذلك العلاقة بين السعودية وإيران.
فبالرغم من أن بكين نجحت في التوسّط لإعادة العلاقات بين السعودية وإيران، فإن الحقيقة أن العراق وسلطنة عُمان هما من قادا الجهود الفعلية لخفض التوتر بين الدولتين، ما أتاح لبكين أن تجني ثمار هذه العملية القائمة أصلًا، الأكثر أهمية، فإن هذا الاتفاق بين السعودية وإيران كان يستند، بالدرجة الأولى، إلى مصالح الطرفين الذاتية؛ إذ رأى كلا البلدين أن خفض التصعيد يصبّ في مصلحته. علاوة على ذلك، من غير المرجّح أن تكون الصين قادرة أو مستعدة لتكريس الموارد اللازمة للإشراف على العلاقة السعودية–الإيرانية، أو لضمان تنفيذ الاتفاق في حال تجدّدت الأعمال العدائية بينهما. لذلك، فإنّ مشاركة الصين كانت وسيلة منخفضة التكاليف لإبراز نفسها كوسيط دبلوماسي محوري في الشرق الأوسط، دون أن تقدّم مساهمة حقيقية ملموسة.
في المحصّلة
إن قدرة بكين على تهديد المصالح الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط مستبعدة حاليًا. كما أن نفور الصين الشديد من التورّط في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، يعني أنها ستواصل التعامل بحذر مع المنطقة دون الغرق في أزماتها ومشاكلها.