د. رائد المصري - خاصّ الأفضل نيوز
يزداد التشابه في ازدواجية تعاطي واشنطن مع لبنان وسوريا، لناحية المشاكل والتعقيدات التي تحيط بهما، والأزمات المتنوعة التي تعصف في هذين البلدين، حيث أميركا الراعية لاتفاق وقف الأعمال العدائية بين حزب الله وإسرائيل، دعمت وصول العماد جوزيف عون للرئاسة، ودعمت تشكيل حكومة الرئيس نواف سلام، وأعلنت أنها تريد دولة قوية، وترغب بمساعدة وحل الأزمات المالية والاقتصادية، لكن كل ذلك مرتبط بنزع سلاح حزب الله، في الوقت نفسه تكفُّ نظرها عن ممارسات تل أبيب، في استمرارها باحتلال أراضٍ لبنانية، وخرقها المتواصل للـ 1701، وتقوم بشنِّ ضربات عسكرية واغتيالات واعتداءات متواصلة على الأراضي اللبنانية، ومنع أي محاولة لإعادة إعمار ما دمرته حربها ولا سيما جنوباً.
ففي لحظة إقليمية تزداد فيها سخونة التحوُّلات السياسية والأمنية، مع هذا التعاطي الأميركي الملْتبس، وترك الحرية لإسرائيل بممارساتها واعتداءاتها عليه، هو يُعيق انطلاقة الدولة اللبنانية ويعرقل طريقها، ليبقى لبنان بلداً عاجزاً عن النهوض والتعافي، وتبقى مؤسسات الدولة عاجزة على ممارسة مهماتها، وبسط سلطة الدولة على كل أراضيها، في الوقت الذي تنهمر عليه الرسائل الديبلوماسية الغربية المبطَّنة، بتهديدات شتى، تتعلق بمهلة تنتهي نهاية العام الحالي لحصر السلاح بيد الدولة، هي في ظاهرها رسائل تبدو انعكاساً لما صرح به طوم باراك من نفاد صبر واشنطن، وتحمل ما يشبه الإنذار السياسي الذي يضع الدولة اللبنانية، أمام منعطف حاسم في مقاربتها لمسألة السلاح خارج إطار الدولة.
إن أي تجاوب مع الطرح الأميركي ومن خلفه الإسرائيلي اليوم، سيعتبره حزب الله استهدافاً مباشراً له وللمقاومة، لفرض تسويات تضرب التوازنات الداخلية في البلد، وهذا النوع من التعاطي، يضع لبنان أمام تحديات ومخاطر أمنية وتوترات اجتماعية، في ظل واقع وبيئة مثقلة بالفقر الاقتصادي والإهمال الاجتماعي، كما أن أي تجاهل من قبل الحكومة اللبنانية الرسمية، ستعتبره واشنطن والغرب بأنه تعطيل لبنان المتعمَّد، وسيزيد من العزلة على بيروت ومن الضغط المالي والديبلوماسي، في ظل وقوع لبنان في حفرة انهيارات اقتصادية غير مسبوقة، حيث إن الدولة اليوم مطالَبة بحسم موقفها بالملفات الخلافية، لكنها في الوقت عينه، تُحاسب على موقفها خارجياً، عند غياب أي توافق وطني جامع.
التحدي لا يتوقف عند حدود المهلة الأميركية المعطاة للبنان، بل يتلاحم مع تحوُّلات تتسارع وتدور في الإقليم، منها في سوريا ولا سيما في السويداء التي تكتسب رمزية مضاعفة، وما رافقها من تصعيد إسرائيلي طال مواقع سيادية ومؤسسات حكومية في دمشق، وهو ما يدلُّ، على أن الصراع السوري دخل مرحلة إعادة لرسم التوازنات وتحديد دوائر النفوذ الإقليمي، بحيث لم تعدْ المعارك محلية، بل باتت جزءاً من ميدان إقليمي أشمل وأوسع، تتقاطع فيه الجغرافيا السياسية في سوريا والأردن مع إسرائيل، وصولا إلى خاصرة لبنان التي باتت رخوة وهشَّة، إذ إن أي خلل في البنية الأمنية والسياسية، يفتح الأبواب أمام متغيرات كبيرة جنوب سوريا وفي شمال شرقها، وهو ما دفع تل أبيب لتتحرك استباقياً، ليطال قصفها القصر الرئاسي، ووزارة الدفاع وهيئة الأركان في دمشق، وهذا ليس رداَّ عسكرياً، بل رسالة واضحة بأن الخطوط الحمراء تغيّرت، وأن إسرائيل لن تنتظر نتائج التسويات لتفرض وقائعها.
لبنان مكشوفً تمامًاً أمام هذا المشهد من التطورات الدراماتيكية، كونه غائبًا عن طاولة التسويات الإقليمية، وهو يدفع ثمن هذا الغياب من استقراره السياسي والأمني، لناحية أنه كلما زاد الضغط على حزب الله في سوريا، تضاعف اعتماده على الداخل اللبناني كعمق استراتيجي، وهو حتماً سيرفع من التصعيد على الحدود الجنوبية، خصوصاً إذا تزامنت الضغوط الأميركية، مع تحرّكات ميدانية عند الحدود، فهذه التطورات ليست تصعيداً مرحلياً وينتهي، بل هي ستأتي بعد مراكمة في التحولات الإقليمية السريعة، التي تنزع نحو القضاء على سلاح الفصائل من خارج الدولة في كل دول المنطقة، حتى في الداخل التركي، وتبلور مشروع إقليمي لتوحيد القرار العسكري، ولبنان في حال لم يبادر سريعاً إلى صوغ معادلة داخلية متوازنة تحفظ سيادته، وتؤمّن توافقاً وطنياً حول موقعه من هذه التغيّرات، سيجد نفسه مجبراً على الانخراط في تسويات مفروضة عليه من فوق، أو معزولاً في انتظار الانفجار.
لا يبدو أن لبنان يملك بتركيبته السياسية المنقسمة، القدرة على اتخاذ قرار سيادي موحَّد، يأخذ في الاعتبار التوازنات الداخلية والضغوط الخارجية، حيث الحسابات الفئوية والرهانات الإقليمية المتناقضة، ربما ستُضيّع فرصته للخروج من المأزق، فيتحوّل الضغط الأميركي إلى قرارات تتعلق بالتسوية السورية، لفرض أمر واقع جديد يزيد من قسمة الأفرقاء في لبنان أكثر، وهنا يتوجَّب على الدولة العمل على إعادة تعريف دور الدولة وسلطتها، وبأن المهلة التي أعطتها واشنطن لبيروت هي جزء من مهلة أكبر، تفرضها الوقائع الميدانية في سوريا وغزة، والعراق واليمن، حيث تتجه القوى الكبرى إلى حسم ملفات النفوذ والسلاح والحدود، وبأنه على القوى اللبنانية معرفة أن المناورة تضيق، فالمعادلات التي تحكم الإقليم تتغيَّر سريعاً، والعواصم المؤثرة تضع أوراقها على الطاولة، وهنا تبقى ضرورة التوجّه إلى حوار داخلي مسؤول، وهو أمر ملح وليس ترفًا سياسياً، لأن الوقائع المفروضة ستغيّر حكماً في الشكل السيادي اللبناني القائم، وهذا ينطبق على نظام الحكم الجديد في سوريا، بعدما لمسنا البرودة الأميركية تجاه الضربات العسكرية الإسرائيلية في قلب دمشق، بمواجهة التطورات العسكرية والأمنية جنوب سوريا، وهو ما يطرح تساؤلات كبرى، حول رغبة واشنطن بإبقاء لبنان وسوريا عاجزيْن على النهوض من جديد لمصلحة إسرائيل، وهذا يتعلق بما ستفعله إدارة ترامب من ممارسات في الأيام المقبلة.