د. علي دربج – خاص الأفضل نيوز
حقًّا، تحوّلت إسرائيل إلى ما يُشبه اللغز هذه الأيّام. فكلّ المفاهيم والنظريّات والتحليلات التي نشأنا وتربّينا عليها وسمعناها عن هذه الدولة، خصوصًا على المستويات الأمنيّة والعسكريّة والعقائديّة ــ مثل عدم قدرة إسرائيل على تحمّل كلفة الدم في الحروب، أو الهروب الجماعي عند أوّل صاروخ يضرب تل أبيب، أو قرب انهيارها الاقتصادي، وغير ذلك من الفنتازيات والجعجعات الفارغة ــ أثبتت عقمها وفشلها وضيق أفق قائليها والمنظّرين لها.
الطامّة الكبرى، أنّ الصورة المُشوَّشة لم تعُد تقف عند هذا الحدّ، إنّما وصلت إلى الثوابت الأميركيّة – الإسرائيليّة، ونتحدّث هنا بالتحديد عن الارتباط والتداخل الديني والروحي التاريخي والعضوي بين الصهيونيّة والكنيسة الإنجيليّة المسيحيّة، والذي تعرّض مؤخرًا للاهتزاز. فحاليًّا، العلاقة بينهما ليست على ما يُرام، خصوصًا بعدما أصبح يُواجه المسيحيّون الإنجيليّون الأميركيّون، الذين يسعون لزيارة الكيان الغاصب، صعوبة كبيرة في الحصول على تأشيرات سياحيّة، في سابقةٍ غير معهودة بين الطرفين.
سابقة: غضب السفير الأميركيّ الإنجيليّ في إسرائيل على الصهاينة
في الواقع، حتّى أقرب وأشدّ حلفاء إسرائيل وأكثرهم تعصّبًا لمشروعها، ودفاعًا عن أفعالها الوحشيّة، أصبح يُهاجر بغضبه، ويُعبّر عن حالة الإحباط التي يعيشها ويشعر بها بسبب تصرّفات إسرائيل غير المفهومة والمُحيّرة، مع جماعته (أي الإنجيليّين) المُخلصين لتل أبيب، وأبرزهم مايك هاكابي.
يُعدّ هاكابي شخصيّةً متعدّدة الطموحات والمناصب. فهو مرشّحٌ رئاسيٌّ جمهوريٌّ سابق، وحاكمٌ سابقٌ لولاية أركنساس، ووالد حاكم أركنساس الحالي، وقسٌّ معمداني. والأهمّ أنّه السفير الأميركيّ الحالي لدى تل أبيب، حيث كان قد صرّح الرئيس دونالد ترامب بأنّه اختاره لانتدابه هناك، لأنّه "يُحبّ إسرائيل وشعبها، وبالمثل، يُحبّه شعب إسرائيل".
لكن مهلاً، لم يعُد هاكابي يُحبّ إسرائيل بالقدر نفسه الذي وصفه ترامب. ففي رسالةٍ حديثةٍ إلى وزير الداخليّة الإسرائيلي موشيه أربيل، نشرتها صحيفة تايمز أوف إسرائيل مؤخرًا، أعرب هاكابي عن "إحباطه من سياسة إسرائيل، التي تبدو جديدة، والمتمثّلة في إبعاد المسيحيّين الأميركيّين عن البلاد".
أكثر من ذلك، كتب هاكابي رسالةً إلى القادة الصهاينة المعنيّين بالأمر، جاء فيها: "ببالغ الأسى، أكتب إليكم مُعربًا عن خيبة أملي العميقة، لأنّ الاجتماع الذي عُقد في مكتبكم لم يُسفر عمّا كنتُ آمل أن يكون حلًّا بسيطًا لمسألة منح التأشيرات الروتينيّة للمنظّمات والعمّال المسيحيّين، كما جرت العادة منذ عقود".
وأضاف هاكابي: "سيكون من المؤسف للغاية أن تضطرّ سفارتنا إلى الإعلان علنًا في جميع أنحاء الولايات المتّحدة، أنّ دولة إسرائيل لم تعُد ترحّب بالمنظّمات المسيحيّة وممثّليها، بل تمارس بدلاً من ذلك مضايقاتٍ ومعاملةً سلبيّة تجاه منظّماتٍ لها علاقات طويلة الأمدّ، ونشاط إيجابي تجاه الصهيونيّة، وصداقة مع الشعب اليهودي ودولة إسرائيل". إشارة إلى أنّ هاكابي يرى بوضوح أنّ معاملة هذه الجماعات المسيحيّة تُعدّ مضايقة.
وأرسل هاكابي نسخًا من الرسالة إلى كلّ من: رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الرئيس الصهيوني إسحاق هرتسوغ، وزير الخارجيّة جدعون ساعر، وزير الشؤون الاستراتيجيّة رون ديرمر، ورئيس الكنيست أمير أوحانا.
ووفقًا لصحيفة التايمز، فإنّ هاكابي كان قد كتب في بداية عام 2025 إلى وزير الداخليّة الصهيوني موشيه أربيل، مُشيرًا إلى أنّ وزارته بدأت تحقيقاتٍ في العديد من المنظّمات المسيحيّة الإنجيليّة ذات العلاقات الطويلة مع إسرائيل، بما في ذلك "المؤتمر المعمداني في إسرائيل" و"التحالف التبشيري المسيحي".
وأبلغ هاكابي أربيل بأنّ هذه المنظّمات مُلزَمة بتعبئة استبياناتٍ مُطوّلة، وأنّها لم تحصل بعد على تأشيراتٍ جديدةٍ للقادة الدينيّين للسفر إلى إسرائيل، رغم تقديم طلباتهم في بداية العام، وفقًا للتقرير.
ما يجدر معرفته، أنّ أوّل زيارة لهاكابي إلى إسرائيل، التي يُطلق عليها "أرضًا مُقدّسة لليهود والمسيحيّين والمسلمين"، كانت عام 1973، ويدّعي أنّه زارها حوالي مئة مرّة. كما تسافر الجماعات المسيحيّة الأميركيّة إلى تل أبيب بسهولة قانونيّة نسبيّة منذ عقود.
إسرائيل والاعتداءات على المسيحيّين في غزّة والضفّة
في الحقيقة، تُعتبر كلمات هاكابي أعلاه قاسية في العُرف الإسرائيلي، لا سيّما أنّ من تفوّه بها شخصٌ لطالما عدّ نفسه صهيونيًّا يؤمن بأنّ الله قد عقد عهدًا مع يهود العهد القديم، يمنح إسرائيل الحقّ في الأرض.
ليس هذا فحسب، إذ يأتي هذا التوتّر أيضًا في أعقاب شنّ إسرائيل الخميس الفائت غارةً على الكنيسة الكاثوليكيّة الوحيدة في غزّة، قُتل فيها ثلاثة أشخاص، إضافةً إلى جَرح كاهنها.
وعلى إثر هذا العدوان، جدّد البابا ليون الرابع عشر دعوته لوقف إطلاق النار في غزّة بعد الحادث، وعارض صراحةً عمليّات القتل في تلك المنطقة طوال فترة حبريّته.
المضحك المُبكي، أنّ إسرائيل اعتذرت عن الغارة، لكن مع ذلك أعرب البعض داخل الكنيسة، مثل الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، عن شكوكهم، مُلمّحين إلى أنّها ربما كانت متعمّدة، بعد أن أدان القادة الكاثوليك مؤخرًا هجمات المستوطنين الإسرائيليّين على بلدةٍ مسيحيّة في الضفّة الغربيّة.
ومع أنّه ليس هناك شكّ في أنّ الطبيعة العدوانيّة لإسرائيل هي التي تدفعها دائمًا لاستهداف المسيحيّين في الأراضي حتى بدون ذرائع أو أسباب، ضع في اعتبارك، أنّه نادرًا ما يشكّك المسيحيّون الصهاينة من أمثال هاكابي في حكومة إسرائيل أو ينتقدونها، خصوصًا حكومة نتنياهو. حتّى أنّ الإنجيليّين الأميركيّين يرفعون بانتظام أعلام إسرائيل إلى جانب الأعلام الأميركيّة، بما في ذلك داخل الكونغرس.
هاكابي وتهديد إسرائيل
فعليًّا، لم يكتفِ هاكابي بعبارات الغضب والانتقاد والاحتجاج، بل استخدم لغةً غير مألوفة في تاريخ العلاقات مع الدولة الصهيونيّة، تمثّلت بالتهديد باتّخاذ إجراءاتٍ مضادّة. ولهذه الغاية، أكّد هاكابي في الرسالة: "إذا استمرّت حكومة إسرائيل في تحمّل التكاليف والمضايقات البيروقراطيّة لمنح التأشيرات الروتينيّة التي كانت لعقودٍ من الزمن روتينيّة، فلن يكون أمامي خيارٌ آخر سوى توجيه قسمنا القنصلي لمراجعة خيارات المعاملة بالمثل للمواطنين الإسرائيليّين الذين يسعون للحصول على تأشيرات إلى الولايات المتّحدة".
كما هدّد السفير بإبلاغ المسيحيّين الأميركيّين بأنّ تبرّعاتهم لإسرائيل لا تلقى ترحيبًا حارًّا، وأنّه ربما ينبغي عليهم تغيير خطط سفرهم إذا كانت تشمل إسرائيل.
في المحصّلة:
ما نشهده هو فصلٌ جديدٌ من هذه العلاقة المتوتّرة بين إسرائيل والمسيحيّين الأميركيّين، الذين كانوا تاريخيًّا من أشدّ المؤيّدين لإسرائيل. ويبقى السؤال: إلى أيّ مدى قد يصل هذا الخلاف؟ من يدري!! فعندما تفقد إسرائيل مايك هاكابي، حينها، اِعلَم أنّ شيئًا ما بدأ يتغيّر.