مهدي ياغي - خاص الأفضل نيوز
منذ السابع من أكتوبر، لم تعد الحروب تُخاض في الميدان وحده ولم تعد الدبابات والمدافع وحدها التي تُغيِّر مصائر الشعوب، إذ صارت الخوارزميات والمنصّات وأدوات الذكاء الاصطناعي جزءًا من معركة الوجود ذاتها. في حرب غزة، لم تكن الصور التي خرجت من تحت الركام مجرّد توثيق، إنما كانت قذائف من الحقيقة شقّت جدار الرواية الإسرائيلية السميك، وأسقطت أمام الرأي العام العالمي كل ذرائع “الدفاع عن النفس” التي تذرّعت بها تل أبيب.
هو الفضاء الرقمي إذًا الذي أحرج الاحتلال وكشف وجهه أمام العالم. فمن مقاطع بثّها ناشطون وصحفيون مستقلون، إلى صور نقلت حجم المجازر والاستهداف الممنهج للمدنيين والبنى التحتية من داخل قطاع عزة، تحوّل الإنترنت إلى ساحة عدلٍ شعبيّة تُدين بلا محاكم، ودفعت منظمات دولية لاتهام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعدد من وزرائه بارتكاب جرائم حرب. ومع تصاعد هذا التأثير الرقمي، بدا أن إسرائيل، التي خسرت روايتها على الأرض، قرّرت أن تستعيدها في الفضاء.
“لا يمكنك القتال اليوم بالسيوف” عبارة قالها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في زيارته الأخيرة إلى نيويورك، أمام مجموعة من المؤثرين الأميركيين داخل القنصلية الإسرائيلية وقال بوضوح: "كان مهمًا السيطرة على تيك توك… علينا أن نستخدم أدوات المعركة، فالأسلحة تتغير مع الزمن. لا يمكنك القتال اليوم بالسيوف.”
لم تكن الجملة عابرة، كانت إعلانًا صريحًا عن انتقال إسرائيل من مرحلة الدفاع عن روايتها إلى مرحلة إعادة هندسة الفضاء الرقمي نفسه. فحين فشلت في إقناع العالم بأن ما تقوم به في غزة “حرب على الإرهاب”، وحين تحوّلت مقاطع الفيديو من رفوف الهواتف إلى أدلّة في المحاكم الدولية، اختارت أن تهاجم البنية التي تولّد هذه الحقائق: الخوارزميات، المنصّات، الذكاء الاصطناعي… وكل ما يشكّل الوعي الجديد للرأي العام.
في قلب هذه الاستراتيجية الجديدة، يقبع مشروع ضخم حمل الاسم الرمزي “545”، خصّصت له حكومة الاحتلال أكثر من نصف مليار شيكل (145 مليون دولار) من ميزانية عام 2025 وفقًا لمجلة Responsible Statecraft، تم التعاقد ضمن هذا المشروع مع شركة أميركية تُدعى Clock Tower X بعقد قيمته 6 ملايين دولار لإنشاء محتوى رقمي مكثّف، والتأثير على خوارزميات الألعاب والمنصات، وإدارة أطر الذكاء الاصطناعي بحيث تصبح أكثر ملاءمة للرواية الإسرائيلية.
يرأس المشروع "إران شايوفيتش"، رئيس ديوان وزارة الخارجية الإسرائيلية، بخبرة تمتدّ لأكثر من سبع سنوات في التسويق عبر الإنترنت، وتحسين محركات البحث، والتسويق بالبريد الإلكتروني والهاتف المحمول وحملات فيسبوك.
وتسعى الخطة إلى تحقيق 50 مليون ظهور شهري، مع تخصيص 80% من المحتوى لجيل Z عبر تيك توك وإنستغرام ويوتيوب والبودكاست، في محاولة لاختراق الفئة العمرية التي أظهرت أقل مستويات التأييد لإسرائيل في الولايات المتحدة.
ليس من المصادفة أن يدير شركة “Clock Tower” براد بارسكال، مدير حملة ترامب السابق والرجل الذي استعان بشركة “كامبريدج أناليتيكا” سيئة السمعة في انتخابات 2016 لتحليل بيانات الناخبين بدقة غير مسبوقة. بارسكال، الذي أصبح اليوم أيضًا الرئيس التنفيذي لمجموعة Salem Media Network – وهي شبكة إعلامية مسيحية محافظة تملك 117 محطة إذاعية في 38 سوقًا أميركيًا – هو محور هذا المشروع، وحلقة الوصل بين الخبرة في “هندسة السلوك” والأجندة الإسرائيلية الجديدة.
و تخطط الشركة لدمج الرسائل المؤيدة لإسرائيل في محتوى برامج مؤثرة مثل The Hugh Hewitt Show و Right View With Lara Trump ما يعني أن الرواية لن تُبث فقط على وسائل التواصل، بل ستتسرّب أيضًا إلى فضاءات الإعلام التقليدي الذي ما زال يملك ثقلًا في تشكيل الرأي العام الأميركي.
الأخطر في “545” أنه لا يقتصر على المحتوى البشري، بل يمتد إلى التأثير في نماذج الذكاء الاصطناعي نفسها مثل ChatGPT وGrok وGemini، عبر إنشاء مواقع جديدة ومحتوى مصمَّم لتغذية هذه النماذج وتوجيه استجابتها بطريقة تخدم إسرائيل.
ففي عالم تُبنى فيه المعرفة على إجابات هذه النماذج، فإن أي تحييد أو توجيه في طريقة فهمها للواقع سيعني إعادة كتابة التاريخ والمفاهيم ذاتها.
وهنا يأتي دور أدوات مثل MarketBrew AI، وهو نظام ذكاء اصطناعي تنبؤي لتحسين محركات البحث ستستخدمه “Clock Tower” لمواءمة السردية الإسرائيلية مع الخوارزميات، ورفع ترتيبها في نتائج البحث على Google وBing
لا تكتفي تل أبيب بالخوارزميات، بل تحاول السيطرة على الأصوات البشرية أيضًا. فبموازاة “545”، أطلقت برنامجًا باسم “مشروع إستر” لدعم المؤثرين الأميركيين بعقود تصل إلى 900 ألف دولار للفرد.
في مرحلته الأولى، سيبدأ التعاون مع 5 إلى 6 مؤثرين يُطلب منهم نشر ما بين 25 و30 منشورًا شهريًا، قبل التوسّع إلى وكالات تسويق وصنّاع محتوى إسرائيليين، بميزانية شهرية تبلغ 250 ألف دولار.
كل ذلك في وقت تُظهر فيه استطلاعات الرأي تراجعًا حادًا في التأييد الشعبي لإسرائيل، خصوصًا بين الفئة العمرية بين 18 و34 عامًا، حيث أظهر استطلاع لمؤسسة “غالوب” أن 9% فقط من هذه الفئة تؤيد العمل العسكري الإسرائيلي في غزة، فيما يرى 47% من الأميركيين أن إسرائيل ترتكب “إبادة جماعية”.
ما تفعله إسرائيل في “545” يتخطى الحملة الدعائية إلى اعتراف ضمني بخسارة الحرب في الميدان الإعلامي. الصور التي بثّها الفلسطينيون من تحت الركام، الشهادات التي وثّقها الصحفيون ، وموجة الغضب الشعبي التي اجتاحت الجامعات الأميركية، كلّها أحدثت شرخًا عميقًا في الرواية الإسرائيلية لم تستطع الدبلوماسية ولا الإعلام التقليدي ترميمه.
ولأن الخسارة في معركة الوعي تعني تآكل الدعم السياسي والمالي في واشنطن، قرّرت تل أبيب أن تُخضع المنصات نفسها لإرادتها، وأن تعيد كتابة الحقيقة عبر الخوارزميات والمحتوى والمفردات، حتى لو كان ذلك على حساب مصداقية من يروّجون لها.
كشف “545” عن حقيقة أساسية: أن الحرب لم تعد تُخاض فقط بالسلاح، بل بالكلمة، بالصورة، بالذكاء الاصطناعي. وأن إسرائيل – التي لم تعد تملك ترف السيطرة الكاملة على السردية – قرّرت أن تقاتل داخل الفضاء الرقمي نفسه.
لكنّ ما لا تدركه تل أبيب أن هناك حقائق لا يمكن شراؤها ولا برمجتها ،هناك ذاكرة حيّة ترسّخت في الوعي الجمعي لجيلٍ شاهد المجازر بأمّ عينيه، ولا يمكن لأي خوارزمية أن تمحو صور الأطفال الخارجين من تحت الأنقاض، ولا صرخات الأمهات الباحثات عن أبنائهن في الليل الدامي.