إلياس المرّ - خاصّ الأفضل نيوز
يتوجّه الرئيس السوري أحمد الشرع اليوم إلى موسكو في زيارة تحمل أبعاداً سياسية واستراتيجية تتجاوز طابعها البروتوكولي.
فهذه الزيارة هي الأولى له إلى روسيا منذ تسلّمه الحكم بعد سقوط نظام بشار الأسد، وهي بذلك تُمثّل لحظة فارقة في إعادة صياغة العلاقة بين دمشق وموسكو، التي طالما شكّلت أحد أعمدة المشهد السوري لعقود. إنها ليست مجرد زيارة رسمية، بل خطوة تعيد تعريف موقع سوريا في التوازنات الدولية، وتختبر في الوقت نفسه مدى استعداد روسيا للتعامل مع واقعٍ سوريٍّ جديد، متحرّر من أثقال المرحلة السابقة.
لحظة ما بعد النظام
منذ سقوط النظام السابق، تحاول دمشق الجديدة إعادة ترميم بنيتها الداخلية وتثبيت شرعيتها السياسية في الداخل والخارج. الرئيس الشرع، الذي صعد إلى السلطة في ظروف بالغة التعقيد، يدرك أن الشرعية السياسية لا تُبنى فقط عبر السيطرة على الأرض، بل عبر الاعتراف الدولي والتوازن في العلاقات مع القوى الكبرى. من هنا تأتي زيارة موسكو كرسالة مزدوجة: طمأنة للحليف الروسي، وإعلان عن توجه سوري مستقل يسعى إلى شراكات جديدة لا وصايات قديمة.
تدرك القيادة السورية أن روسيا كانت أحد أبرز الفاعلين في المشهد السوري لعقدٍ كامل، وأن الوجود العسكري الروسي في طرطوس وحميميم لا يمكن تجاهله أو شطبه بقرار سياسي. لكنها في الوقت نفسه تسعى إلى إعادة تعريف هذا الوجود ليصبح تعاوناً سيادياً لا تبعية ميدانية، وشراكة أمنية واقتصادية تقوم على الاحترام المتبادل لا على منطق الحماية المشروطة.
الأجندة المعقّدة
الاجتماع الذي سيُعقد بعد ساعات بين الشرع وبوتين يُنتظر أن يتناول ملفات مصيرية. على رأسها مسألة القواعد الروسية في الساحل السوري، ومدى الحاجة إلى إعادة صياغة الاتفاقات السابقة بما يضمن لسوريا الجديدة حقّها الكامل في السيادة على أراضيها، مع الحفاظ على التعاون الدفاعي والعسكري في إطار شفاف ومتوازن.
الملف الثاني الذي يفرض نفسه بقوة هو ملف العدالة الانتقالية، إذ تُصرّ دمشق على محاسبة رموز النظام السابق أمام القضاء السوري، في خطوة تعبّر عن رغبة حقيقية في طيّ صفحة الماضي عبر مسار قانوني لا انتقامي. هنا يُطرح سؤال صعب:
هل ستقبل موسكو بتسليم بشار الأسد لمحاكمته داخل سوريا؟ الإجابة عن هذا السؤال ستحدّد بوضوح شكل العلاقة المقبلة بين البلدين.
أما الملف الثالث فيتعلّق بإعادة تقييم الاتفاقات الاقتصادية والعقود الكبرى التي أُبرمت في عهد النظام السابق، خصوصاً في مجالات الطاقة والمرافئ وإعادة الإعمار. فدمشق الجديدة تريد أن تعيد ترتيب هذه العلاقات على أساس المنفعة المشتركة، بعيداً عن شبهات الاستغلال أو الامتيازات المفرطة التي طغت على المرحلة السابقة. وبذلك تحاول القيادة الجديدة أن تؤسّس لاقتصاد شفافٍ يُعيد الثقة بين الدولة والمستثمرين المحليين والدوليين على السواء، بالرغم من بداية ظهور لوبيات اقتصادية ناشئة تحوم حولها علامات الاستفهام، البعض منها بأسماء جديدة، والبعض الآخر أسماء ذات خبرة طويلة وكانت جزءًا من المنظومة أو المحفظة المالية للنظام السابق.
ذاكرة التاريخ ومآلات الحاضر
ليست هذه هي المرة الأولى التي يشهد فيها التاريخ تحوّلاً جذرياً يعيد رسم العلاقات بين الدول بعد سقوط الأنظمة. فبعد انهيار نظام القذافي في ليبيا، شهدت موسكو تحوّلاً في مقاربتها لطرابلس، حيث أعادت تقييم عقود التسليح والنفط وفق معادلات جديدة. وقبلها، حين سقط نظام صدام حسين في العراق، تغيّرت قواعد اللعبة بالكامل، وأُعيدت صياغة الشراكات الاقتصادية والسياسية في ضوء ميزان قوى جديد.
اليوم، تسير سوريا على هذا الطريق ذاته، ولكن بظروف أكثر تعقيداً، نظراً لتشابك النفوذ الدولي والإقليمي على أراضيها، ولأنها تقع في صميم الصراع الجيوسياسي بين الشرق والغرب.
إلا أن خصوصية الحالة السورية تكمن في أن دمشق لا تريد القطيعة مع موسكو، بل تسعى إلى علاقة مختلفة؛ فالقيادة الجديدة تُدرك أن روسيا تمثل ثقلاً عسكرياً وسياسياً لا غنى عنه، لكنها أيضاً تعلم أن بقاء العلاقة في إطارها القديم يُعيق بناء دولة مستقلة فعلياً، لذلك، يبدو الشرع حريصاً على تحقيق توازن دقيق: الحفاظ على التحالف التاريخي من جهة، وصياغة قواعد جديدة للعلاقة من جهة أخرى.
بين الطموح والاختبار
في خلفية المشهد، تقف تحديات كبيرة ستختبر قدرة الطرفين على تحويل النوايا إلى أفعال. فروسيا التي ترى في سوريا بوابتها إلى المتوسط لن تتخلى بسهولة عن امتيازاتها الاستراتيجية. ودمشق، التي تحاول أن تخرج من أعباء الحرب والعزلة، لا تستطيع المخاطرة بخسارة الدعم الروسي في لحظة تحتاج فيها إلى مظلة سياسية واقتصادية واسعة.
لكنّ القيادة السورية تراهن على معادلة جديدة قوامها أن روسيا تحتاج إلى سوريا الجديدة بقدر ما تحتاج دمشق إلى موسكو. فالمصالح الروسية في الشرق الأوسط باتت أكثر تعقيداً بعد المتغيرات الأخيرة في الخليج واليمن وفلسطين، وموسكو تسعى للحفاظ على موقعها دون أن تظهر بمظهر الحامي لأنظمة فقدت شرعيتها. من هنا، قد تجد في الشرع شريكاً مقبولاً يمكن التعامل معه بمرونة دون خسارة النفوذ.
المعادلة الداخلية والخارجية
داخلياً، يدرك الشرع أن نجاح زيارته إلى موسكو سيُترجم في الشارع السوري كدليل على قدرة النظام الجديد على انتزاع اعتراف دولي فعلي، بعد سنوات من العزلة والعقوبات. أما خارجياً، فستُقرأ الزيارة على أنها بداية لمرحلة من إعادة التموضع الروسي في سوريا، وربما إعادة توزيع للأدوار بين القوى الدولية الفاعلة على الأرض السورية.
في العمق، هذه الزيارة تحمل بعداً أبعد من الملفات التقنية. إنها تعبير عن رغبة سوريا الجديدة في تجاوز مرحلة “الوصاية المتبادلة” نحو شراكة استراتيجية متكافئة. كما أنها مؤشر إلى تحوّل أوسع في السياسة الروسية تجاه المنطقة، إذ يبدو أن موسكو بدأت تتعامل مع ما بعد الأسد بوصفه واقعاً لا رجعة عنه، وتسعى إلى أن تبقى جزءاً من الحلّ لا من الماضي.
خاتمة: ما بعد الصورة التذكارية
الزيارة إذن ليست اختباراً دبلوماسياً فحسب، بل محطة تأسيسية في بناء العلاقات بين دولتين وُلدتا من رحم الحرب والتغيّر. فإذا نجح الجانبان في ترجمة الخطاب السياسي إلى خطوات عملية، فستكون موسكو قد أمنت لنفسها موقعاً ثابتاً في شرق أوسط متبدّل، وستكون دمشق قد خطت أولى خطواتها نحو استقلال القرار واستعادة السيادة الكاملة.
أما إذا بقيت الزيارة حبيسة الكلمات والوعود، فإن الخيبة ستكون مضاعفة: خيبة السوريين الذين ينتظرون تحولاً حقيقياً في سياسات بلدهم، وخيبة الروس الذين يدركون أن زمن السيطرة المطلقة ولى إلى غير رجعة.
في النهاية، سوريا الجديدة أمام امتحان تاريخي: هل تنجح في تحويل التحالف إلى شراكة، والتابعية إلى استقلال، والذاكرة المثقلة إلى تجربةٍ تُبنى عليها دولةٌ حديثة؟ الجواب لن يُكتب في محاضر الاجتماعات، بل في ما ستفعله دمشق بعد أن تُطفأ أضواء الكرملين.