إلياس المرّ - خاصّ الأفضل نيوز
دوّى خبر لم يكن متوقعاً وسط ضجيج القصف والاتهامات المتبادلة: باكستان وأفغانستان تتفقان على وقف فوري لإطلاق النار بعد محادثات في الدوحة.
منذ اللحظة الأولى، بدا أن الحدث يتجاوز حدود النزاع بين بلدين جارين إلى مشهدٍ إقليمي أكثر تعقيداً، تُحاول فيه القوى الآسيوية والخليجية إعادة هندسة الاستقرار في رقعةٍ طالما عرفت الاضطراب.
خلف الحدود والنار
الحدود الباكستانية – الأفغانية، الممتدة على أكثر من ألفي كيلومتر، هي واحدة من أكثر الخطوط سخونةً في العالم. فهي ليست مجرد فاصل جغرافي، بل جرحٌ مفتوح منذ رسم «خط دوراند» في القرن التاسع عشر، حين فصل الاستعمار البريطاني بين قبائل لم تعترف يوماً بتلك الخطوط.
ومنذ انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان عام ٢٠٢١، تحوّلت المنطقة إلى ساحة شدٍّ وجذبٍ بين حركة طالبان، التي تسعى لترسيخ سلطتها، والحكومة الباكستانية التي تخشى من تمدّد الفصائل المتشددة إلى أراضيها.
خلال الأشهر الأخيرة، تكرّرت الاشتباكات الدامية على الحدود. لكن ما جعل اتفاق الدوحة لافتاً هو أنه جاء بعد مرحلةٍ بدت فيها الأمور على حافة مواجهة شاملة، فإسلام آباد كانت قد لوّحت باستخدام «كل الوسائل الممكنة» للدفاع عن نفسها، فيما كانت كابول تردّ بأن السيادة الأفغانية ليست مجالاً للتفاوض، ومع ذلك، جلس الطرفان على طاولةٍ واحدة في العاصمة القطرية، ليخرج من رحم الصراع أول خيطٍ من خيوط التهدئة.
الدوحة مجدداً: دبلوماسية الظلال
اختيار الدوحة مكاناً للمحادثات لم يكن مصادفة، فالعاصمة القطرية التي كانت قبل أعوام مسرحاً لتوقيع اتفاق الانسحاب الأميركي من أفغانستان، عادت اليوم لتكون منصّة سلام بين جارين أنهكتهما الحرب.
الوساطة القطرية باتت مدرسة قائمة بذاتها في الدبلوماسية الهادئة، تقوم على الجمع بين الواقعية السياسية والقدرة على التواصل مع أطراف متناقضة. ومثلما لعبت الدوحة دوراً في تقريب الأميركيين من طالبان، ها هي تجمع طالبان من جديد مع باكستان، في لحظة حرجة تشبه لحظات «الهدن المستحيلة» في التاريخ الحديث.
إنها لحظة تُذكّر باتفاقياتٍ أخرى وُلدت في أماكن غير متوقعة: كاتفاق السلام بين كولومبيا والمتمردين في هافانا، أو التفاهمات التي جمعت إريتريا وإثيوبيا في أسمرة بعد عقود من الحرب. في كل تلك الحالات، كانت هناك حاجة إلى طرفٍ محايد يمتلك القدرة على الإصغاء أكثر من الإملاء، وعلى ترميم الثقة أكثر من فرضها.
ما وراء التهدئة
لكن ماذا يعني هذا الاتفاق فعلاً؟
البيانات الرسمية اكتفت بعبارة «وقف فوري لإطلاق النار» و«التزام بخطوات لضمان الأمن والاستقرار الدائمين». إلا أن ما بين السطور أهم بكثير، فالتفاهم الضمني يتضمن، وفق تسريبات من الوفود المشاركة، آلية لضبط الحدود، وتبادل معلومات استخباراتية، وتنسيق أمني برعاية قطرية في المرحلة الأولى.
هذا التطور، وإن بدا فنياً، إلا أنه يعكس تحوّلاً أعمق في الذهنية الباكستانية والأفغانية معاً، فبعد سنوات من الاعتماد على القوة، بدأت قناعة جديدة تتبلور بأن النار وحدها لا تُطفئ النار، وأن الطريق إلى الاستقرار يمرّ عبر الدبلوماسية، لا عبر المدافع.
في التاريخ، لحظات مشابهة غيّرت مسارات دول: حين وقّعت فيتنام اتفاق باريس عام ١٩٧٣، أو حين اختارت إيرلندا الشمالية اتفاق «الجمعة العظيمة» عام ١٩٩٨، أدركت الأطراف المتحاربة أن الحروب لا تنتهي بانتصار، بل بتوازن إرادات.
أفغانستان بين الانغلاق والانفتاح
لطالبان، يمثل اتفاق الدوحة فرصة نادرة للخروج من عزلتها الدولية، فمنذ استعادتها السلطة في كابول، واجهت الحركة رفضاً دولياً للاعتراف بها، وانتقادات لسياساتها الداخلية. لكنّ جلوس ممثليها في مفاوضات رسمية مع دولة إسلامية كبرى مثل باكستان، وتحت مظلة قطرية، يمنحها ملامح «شريك أمني» بدلاً من صورة «الدولة المنغلقة».
تاريخ أفغانستان مليء بمحاولات مماثلة لتثبيت الذات بعد الحروب: من اتفاقات موسكو وكابول في الثمانينيات، إلى تفاهمات بون عام ٢٠٠١. غير أن ما يميّز المرحلة الحالية هو غياب القوى الغربية المباشرة عن الطاولة، ما يجعل القرار الأفغاني – الباكستاني أكثر استقلالية وإن كان محفوفاً بالتحديات.
باكستان… البحث عن استقرار داخلي
أما باكستان، التي تواجه منذ سنوات أزمات اقتصادية وأمنية متشابكة، فهي ترى في التهدئة مع أفغانستان ضرورةً لحماية حدودها الغربية، وتوجيه مواردها نحو الداخل. فإسلام آباد تُدرك أن استمرار التوتر سيُرهق جيشها الذي يواجه أصلاً تحديات على الحدود مع الهند، وسيزيد من الضغوط الشعبية في وقتٍ تعيش فيه البلاد تضخماً خانقاً وأزمة سياسية متصاعدة.
ولعلّ من المفارقة أن يُعيد هذا الاتفاق إلى الأذهان تجارب أخرى في آسيا، حين تحوّلت العداوات القديمة إلى شراكات اقتصادية. فاليوم، تراقب العواصم الآسيوية ما سيحدث بين كابول وإسلام آباد، على أمل أن يتحوّل خط النار إلى ممرٍّ للتجارة، كما تحوّل نهر الميكونغ من جبهة حرب إلى شريان سلام بين دول جنوب شرق آسيا.
الانعكاسات الإقليمية
إقليمياً، يحمل الاتفاق في طيّاته أكثر من رسالة، فهو يتيح للقوى الآسيوية الكبرى مثل الصين وروسيا – رؤية حدود أكثر استقراراً في طريق «الحزام والطريق»، ويفتح المجال لتعاونٍ أمني أوسع يشمل آسيا الوسطى. كما ينسجم مع التوجّه الخليجي العام نحو تشجيع التهدئة وبناء الجسور بين الدول المتنازعة، بدلاً من تصدير الأزمات إليها.
الهدوء بين كابول وإسلام آباد، إن تكرّس، سيكون خطوةً نحو بيئة أكثر استقراراً في جنوب آسيا، حيث تختلط الجغرافيا بالأيديولوجيا، والتاريخ بالدم. وربما يحمل الاتفاق في طيّاته بذور تحوّل تدريجي، يشبه ما حدث في البلقان بعد عقدٍ من الحروب، حين أدّت سلسلة اتفاقات محدودة إلى بناء ثقةٍ مهّدت لسلام أوسع.
تحديات السلام الوليد
لكن طريق السلام لا يزال طويلاً؛ فالجماعات المسلحة التي تتحرك في المناطق الحدودية لا تخضع دائماً لسلطة أي دولة، والقبائل المتداخلة لا تعترف بالخطوط المصطنعة التي رسمها الاستعمار. كما أنّ انعدام الثقة بين الجانبين يجعل أي حادثٍ صغير قابلاً لتفجير الوضع مجدداً.
ومع ذلك، فإن رمزية الاتفاق تبقى أقوى من هشاشته. فالدوحة، بما تمثله من حياد ومرونة، أعادت فتح نافذةٍ صغيرة في جدارٍ من العداوات. وإذا ما أُحسن استثمار هذه النافذة، يمكن أن تتحول إلى بوابة نحو سلامٍ أوسع يشمل محيط أفغانستان كلّه.
في نهاية المطاف، لا يُقاس نجاح الاتفاق بعدد الأيام التي سيسود فيها الهدوء، بل بقدر ما يتركه من أثر في ذهنية الطرفين؛ فالسلام، كما يقول أحد كبار الدبلوماسيين الآسيويين، ليس لحظة تُوقّع فيها الورقة، بل ثقافةٌ تُبنى في العقول.
وإذا كان تاريخ هذه المنطقة علّمنا شيئاً، فهو أن الحروب مهما طال أمدها لا تستطيع إطفاء جذوة الأمل؛
ففي الدوحة، وللمرة الثانية خلال عقد واحد، خُطّ فصل جديد من فصول البحث عن سلامٍ أفغاني – باكستاني، سلامٍ يُولد من الرماد، لا من البارود.

alafdal-news
