نبيه البرجي - خاصّ الأفضل نيوز
حين قال الموسيقي الألماني الفذ ريتشارد فاغنر، صاحب سمفونية "غروب الآلهة"، "لا أدري كيف يستطيع اليهود الاغتسال من لعنة يهوذا"، لم يكن يتوقع، وبعد انقضاء نحو قرن ونصف، أن يصف أستاذ يهودي في جامعة هارفارد، هو جيمس فريدمان، رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بـ"الرجل الذي تقمّص شخصية يهوذا، ولعنة يهوذا...!"
انتقالًا إلى الفيلسوف اليهودي الفرنسي آلان فينكلروت، الذي قال، وهو العاشق القديم للدولة العبرية، إنه يشعر بـ"نكبة شخصية بسبب السياسات الدموية للائتلاف الحالي". نقل أحاسيسه الراهنة إلى زميل عربي في باريس قائلاً: "إن عظامي تتداعى عندما يدقّ في رأسي ناقوس الخطر". ليسأل عن مصير اليهود، ليس فقط في إسرائيل، وإنما في العالم، حيث "بات الكثيرون ينظرون إلينا كوننا القتلة. وإذا كان الخوف يستوطن، تاريخيًّا، في اللاوعي لدى الحاخامات الذين يلامسون الجدران أثناء سيرهم في المدن الغربية تفاديًا حتى لتبادل النظرات مع الآخرين، لا بد أن يجدوا أنفسهم مضطرين للسير داخل الجدران".
في نظره أن أزمنة الرعب عادت. الآن صورة اليهودي لم تعد صورة الضحية، وهذه هي الصورة التي كرّسها الهولوكوست (المحرقة)، وإنما منظر الجلاد الذي تلطّخ وجهه بالدم. أكثر من ذلك، رهان إسرائيل على دونالد ترامب، الذي هو رجل الأبراج العالية لا رجل القيم العالية.
الكثيرون، لا سيما في أوروبا، "ينظرون إلينا كمرتزقة، ما دامت مهنتنا أن نفرش الطرقات إلى الشرق الأوسط بالجثث أمام الرئيس الأميركي الذي تقوم حياته على فلسفة الصفقات".
وكنا قد لاحظنا انتشار عناوين رئيسية في صحف عالمية من قبيل "كيف تغيّر يهود أميركا؟"، لا سيما النخب الجامعية والمثقفة. هكذا في القارة العجوز، ولكن دون أن يتزعزع موقف الفيلسوف اليهودي الفرنسي برنار ـ هنري ليفي، الذي يعتبر أن ما يحدث إعلاميًّا الآن لا يعدو كونه "الضوضاء التي يُحدثها عبور قطار في إحدى المدن"، فيما رأى زميله الفرنسي فرنسوا بورغا في ذلك "الضوضاء التي يُحدثها التاريخ، والتي تُشي بأن زلزالًا ما في الطريق، إذ مثلما هناك تفاعلات جيولوجية في الجغرافيا، هناك تفاعلات جيولوجية في التاريخ أيضًا".
مؤرخون ومفكرون غربيون دأبوا في الآونة الأخيرة على الحديث عن ظهور "الفوهرر الآخر" في إسرائيل، إذ كيف لدولة أن تبقى، بثقافة الدم، وسط تلك المنطقة التي قال آرنولد توينبي إنها "تصنع الآلهة لتأكلهم، تمامًا مثلما كانت تفعل بالأوثان قبل ظهور الإسلام"! الفيلسوف اليهودي الأميركي نورمان فلكشتاين رأى في الأكفان البيضاء التي يُلفّ بها الضحايا أو أشلاؤهم "أشباحًا يمكن أن تثير الهلع حتى في عظام تيودور هرتزل".
وكان قد هال الكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان منظر الكلاب الجائعة وهي تأكل الجثث بعدما ابتعدت عنها الغربان، ربما بسبب مأسوية المشهد.
فلكشتاين قال إنه يشعر، أحيانًا، "بالشفقة على الإسرائيليين، حتى لو فتح ترامب أمامهم كل تلك الأبواب التي كانت موصدة في وجوههم، دون أن يدري أنه يفتح أمامهم أبواب الجحيم، إذ ليس هناك من عربي إلا ويفكر كيف يحفر بيديه قبرًا لإسرائيلي. وهكذا ظهرت عبقرية بنيامين نتنياهو في أن يطلق صراع القبور والقبور، لا صراع الأدمغة والأدمغة، من أجل بناء منطقة لطالما كانت، على مر الأزمنة، أرض الحضارات الكبرى مثلما هي أرض الديانات الكبرى...".
وها هو توم براك يهددنا بـ"المواجهة الكبرى بين إسرائيل التي في لحظة قوتها، و"حزب الله" الذي في لحظة ضعفه". إذا كان الحزب ضعيفًا إلى ذلك الحد، فلماذا الحرب ضده وهو الذي بات على يقين باستحالة القيام بأي هجوم، وحتى على المدى البعيد، دون أن يكون هناك استنفار عربي عام، وبسبب الاختلال المروّع في موازين القوى، ودون أن تضغط واشنطن على حكومة نتنياهو من أجل تنفيذ ولو بند واحد من اتفاق وقف النار، مع أن ما من رصاصة أُطلقت من الجهة المقابلة بالرغم من الضربات الجوية اليومية.
لا شيء يُدعى "القوة الإسرائيلية". حتى المعلقون الإسرائيليون أكدوا، المرة تلو الأخرى، أنه لولا الإمدادات العسكرية الأميركية اليومية، لكان المقاتلون الفلسطينيون يرفعون راياتهم على ناطحات السحاب في تل أبيب.
حتّى الآن، لا خطوة واحدة من واشنطن لمساعدة لبنان على تخطّي المأزق الراهن، وهو مأزق وجودي بكل معنى الكلمة. دائمًا تهديدات وتصريحات ملتبسة، حتى أن مورغان أورتاغوس بدت وكأنها تريد أن تغرز إصبعها المرصّع بنجمة داود في أعيننا، ليبشّرنا براك بأن السفير الأميركي الجديد ميشال عيسى، وهو من أصل لبناني، سيساعدنا على تذليل العقبات التي تحول دون حل الأزمة، على أمل معالجة الأزمة بالقفازات الحريرية لا بالقاذفات المحمّلة بالقنابل.
الرئيس الأميركي قال، يوم الأحد، إنه لا وجود لجدول زمني قطعي لنزع سلاح حركة "حماس"، مشيرًا إلى أن تنفيذ اتفاق وقف النار في غزة يعتمد على تطور الأوضاع ميدانيًّا وسياسيًّا في المرحلة المقبلة. إذًا مشهد مشرّع على كل الاحتمالات.
نقطة حساسة في كلامه: "إن التوصل إلى ذلك الاتفاق لم يكن ممكنًا إلا بعد إقصاء إيران عن هذا المسار والقضاء على قدراتها النووية". ولكن يفترض أن يعلم أن القضية الفلسطينية هي قضية فلسطينية، لا قضية أي طرف آخر. فهل فكّر يومًا في حق الفلسطينيين في أن يكون لهم كيان جغرافي، ودستوري، وسياسي بطبيعة الحال، لا أن يبقوا على تَبعثُرهم الحالي، وفي بؤسهم الحالي، في أصقاع الأرض؟
استطرادًا، ماذا يعني نزع السلاح الفلسطيني إذا كانت أرض فلسطين في دورتهم الدموية، ودون أن يتوقف نتنياهو وزبانيته عن التصريحات النارية، وعلى مدار الساعة؟
عودة إلى فينكلروت: "إذا لم تقم الدولة الفلسطينية، تزداد خشيتي على الدولة اليهودية". النتيجة: لا دولة يهودية دون الدولة الفلسطينية. إنها قوة الأشياء!

alafdal-news
