مفيد سرحال - خاص الأفضل نيوز
لا يختلف عاقلان حول أن مرحلة "الإمبراطورية الصهيونية" أو مرحلة "الدولة العظمى" الإسرائيلية في دائرة الإقليم الشرق أوسطي، بمعنى قضم وهضم المزيد من الأراضي العربية، هي أحد أبرز مفاعيل الأيديولوجية الصهيونية المجسدة في قوة مادية منظمة، أو بالأحرى أحد أبرز مفاعيل الجوهر الاستعماري الإجلائي الإحلالي التوسعي للأيديولوجية الصهيونية، المتوسلة ذرائع وأسباباً مرتبطة بالدعاوى الدينية أو التاريخية أو العسكرية أو الاقتصادية. وبالتالي تتجسد الأفكار والطروحات والأهداف بإصرار دائم وجشع مثابر للتأكيد بالملموس أن الشعارات لا تُرفع لتُلحس، والمشاريع لا تُوضع ليجري التخلي عنها مستقبلاً، بل التمسك بها دون هوادة وخلق الظروف والمناخات الملائمة لترجمتها منذ الآباء الأوائل للفكرة الصهيونية وصولاً إلى نتنياهو، الذي لطالما جاهر بأنه الأب الثاني للكيان بعد بن غوريون، الساعي لتحقيق حلم ما بات يُعرف بـ"إسرائيل الكبرى"، متكئاً على إدارة ترامب الذي انفطر قلبه على إسرائيل الصغرى آملاً أن تتسع.
إذاً، نتنياهو يترجم ما كُتب بالاستناد إلى الوثائق الصهيونية الرسمية، لا سيما في الفترة الممتدة بين شباط 1917 وشباط 1919، فقد أطنبت "نشرة فلسطين" الصادرة عن "لجنة فلسطين البريطانية" في عرض تفاصيل حدود "فلسطين" المطلوبة صهيونياً في مقالات عدة نشرتها على امتداد أشهر تلك الفترة. بل إن خلاصة تلك المقالات أصبحت، مع انعقاد "مؤتمر السلام" في العام 1919، موقفاً صهيونياً شاملاً من مسألة رسم حدود "فلسطين الكبرى" التي طالبت بها "المنظمة الصهيونية" في مذكرتها الرسمية الشهيرة المقدمة لذلك المؤتمر.
وتكشف هذه المذكرة بوضوح قاطع، لا لبس فيه ولا غموض، أن "الحركة الصهيونية تطالب بأن يكون الحد الغربي لدولتها هو البحر الأبيض المتوسط، أما حدها الشرقي فهو غربي الخط الحديدي الحجازي، في حين يكون حدها الجنوبي عند نقاط قريبة من كل من العقبة والعريس، وأخيراً تتضمن الحدود الشمالية للدولة اليهودية المطلوبة نهر الليطاني إلى بانياس، على مقربة من منابع نهر الأردن، ثم في اتجاه جنوبي شرقي إلى نقطة جنوبية قريبة من دمشق والخط الحديدي الحجازي".
وبذلك اتسعت حدود "فلسطين الكبرى" المطالب بها رسمياً في الأوساط الصهيونية، بحيث أصبحت تهدف إلى ضم شرق الأردن برمته، وسهل حوران الكبير، وجبل الشيخ، ومنطقة دمشق، وربما مدينة دمشق ذاتها، والمنطقة الفاصلة ما بين هذه الأخيرة والحدود اللبنانية السورية الراهنة، ومنطقة صيدا وصولاً إلى منابع المياه في جبال لبنان حتى جسر القرعون، وتتبع الخط الفاصل بين حوض وادي القرن ووادي التيم، ثم إلى اتجاه جنوبي يتبع الخط الفاصل بين المنحدرات الشرقية والغربية لجبل الشيخ.
إن واضع هذه الوثيقة منذ قرابة مئة عام ويزيد، البروفسور أوتو واربورغ، الرئيس الأسبق للمنظمة الصهيونية، بالاشتراك مع هرتزل وديفيد تريتشك في لجنة برلين التي رسمت الخطوط العريضة لفكرة وخارطة "إسرائيل الكبرى".
وقد استعرضها نتنياهو في الأمم المتحدة، ومن ينظر إلى انتشار جيش العدو الإسرائيلي في جنوب سوريا من الجولان إلى قطنا عند مشارف دمشق، مروراً بجبل الشيخ الذي احتُل بكليته وتغيرت معالم قممه الشمالية بفعل الطرقات وأعمال التجريف وبناء القواعد العسكرية الضخمة وصولاً إلى ريفي درعا والقنيطرة، وما يُعدّ للسويداء من مشاريع، هو بحد ذاته الترجمة الحرفية للكتاب الذي يقرأ بين دفتيه نتنياهو. وما يجري في جنوب لبنان من قتل يومي وتدمير ممنهج للاقتصاد وإعدام كل سبل الحياة وتشريد الأهالي ومنع عودتهم إلى قراهم وأرزاقهم يدخل في السياق نفسه.
صحيح أن المشهد قاتم، والبعد التوسعي للفكرة الصهيونية يتمظهر بأقبح صوره، غير أن تجارب الشعوب المتمسكة بحقها القومي أثبتت أن التراجع لا يعني الهزيمة، والانكفاء الظرفي لا يعني الاستسلام، والتكيّف والترقب اليقظ المتحفز لا يعني الانكسار أو الانهيار الإدراكي. فهذه بمجملها محطة من محطات الصراع، طالما أن الحق القومي باقٍ فكرة مقدسة حية في النفوس، وشعلة تخبو ولكنها لا تنطفئ. وما مشهدية الصمود الأسطوري في غزة والخيام وكل حواضر الجنوب، ومعها جحافل الأشبال في المدينة الرياضية، تشي بأن العواصف العابرة تتبدد وتتلاشى، وقدر الشعوب الحرة المؤمنة بقضاياها الوطنية والقومية إما الانتصار وإما الانتصار... .

alafdal-news



