ميشال نصر _خاص الأفضل نيوز
لم تكن زيارة رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية اللواء حسن رشاد إلى بيروت حدثاً بروتوكولياً أو محطة عابرة في سجل العلاقات اللبنانية - المصرية.
فالزيارة، التي جرت في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، حملت في طياتها رسائل سياسية وأمنية واضحة، أعادت مصر إلى قلب المشهد اللبناني بعدما غابت عنه نسبياً في السنوات الأخيرة.
كل التفاصيل، من توقيتها، إلى طبيعة لقاءاتها، و المعلومات المسربة عنها، توحي بأنّ القاهرة قررت هذه المرة الدخول مباشرة على خطّ الأزمة اللبنانية - الإسرائيلية، ليس كوسيط تقليدي، بل كضامن إقليمي، قادر على التحدث إلى جميع الأطراف، انطلاقاً من موقعها كقوة عربية تمتلك شبكة علاقات متوازنة تمتد من واشنطن إلى طهران مروراً بتل أبيب وبيروت.
مصادر سياسية متابعة لمسار الاتصالات اللبنانية - المصرية تؤكد أنّ تحرّك اللواء رشاد لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة تفاعل مباشر عقب قمة شرم الشيخ الأخيرة، حيث أعلن الرئيس اللبناني استعداد بلاده للدخول في مفاوضات مع إسرائيل.
حينها، أجرت بيروت سلسلة اتصالات عاجلة مع القاهرة، طالبةً دعمها في هذا المسار الحساس، خصوصاً بعد أن أثبتت مصر قدرتها على إدارة ملفات إقليمية معقّدة كالتسوية التي أفضت إلى وقف النار في غزة. وقد تجاوبت القاهرة بسرعة، فباشرت جسّ نبض القوى الدولية المعنية بالملف اللبناني، والتي توزعت مواقفها بين داعم حذر وغير مكترث.
وأمام هذا التباين، اتخذ الرئيس المصري قراراً شخصياً بإيفاد رئيس جهاز مخابراته إلى بيروت، في رسالة أراد من خلالها التأكيد أن مصر لا تكتفي هذه المرة بإبداء النوايا، بل تمارس فعلاً سياسياً مباشراً على الأرض.
ووفقًا للمصادر تمحورت اللقاءات التي عقدها اللواء رشاد مع المسؤولين اللبنانيين، حول شقين رئيسيين:
- الشق الأمني – الميداني: حيث ركّز على ضرورة تثبيت وقف إطلاق النار على الجبهة الجنوبية، بالتنسيق مع واشنطن وباريس والدوحة، في محاولة لمنع انزلاق الأوضاع إلى مواجهة شاملة. ونقل الموفد المصري قناعة بلاده بأنّ أي معالجة أمنية لا تُرفق بتسوية سياسية داخلية ستبقى هشّة ومؤقتة، لأن الهدوء في الجنوب يبدأ من الداخل، من إعادة ترميم التفاهم الوطني وتوحيد الموقف اللبناني في ما يتصل بالحدود والقرارات السيادية.
- الشق السياسي – التفاوضي، حيث هدفه التمهيد لمرحلة جديدة من الحوار غير المباشر بين بيروت وتل أبيب، وفق مبدأ "الخطوة مقابل خطوة"، لمعالجة الملفات العالقة: الانسحاب من الأراضي اللبنانية المتبقية، تبادل الأسرى، وقف الانتهاكات الجوية الإسرائيلية، وصولاً إلى استكمال ترسيم الحدود.
وقد نقل رشاد رغبة القاهرة في إرساء مسار تفاوضي واقعي يحافظ على الثوابت اللبنانية ويستفيد من اللحظة الإقليمية التي تتيح حلولاً تدريجية لا تُحرج المقاومة ولا تعزل الدولة.
غير أن القاهرة، التي استندت في تحرّكها إلى التجربة التي خاضتها في قطاع غزة، حيث تمكنت من التوسط بين أطراف متنازعة والتوصل إلى تفاهمات معقدة أنهت جولة التصعيد الأخيرة، سرعان ما تبيّن لها خلال مباحثات رشاد في بيروت أنّ النموذج الغزّاوي غير قابل للاستنساخ في الحالة اللبنانية، بسبب اختلاف البنية السياسية والديموغرافية، وبفعل خصوصية دور حزب الله في المعادلة الداخلية والإقليمية.
ومع ذلك، لاقت بعض الأفكار المصرية تجاوباً من الجانب اللبناني، خصوصاً تلك التي تدعو إلى تحييد لبنان عن لعبة التصعيد المتبادل، وتفعيل قنوات التواصل غير المباشر مع تل أبيب برعاية عربية ودولية مشتركة.
وتتابع المصادر أن ما ميّز التحرّك المصري هو الدقة في الحسابات والمرونة في الأسلوب. فالقاهرة كانت حريصة على عدم استفزاز "الثنائي الشيعي"، ولا سيما حزب الله، وتجنّب أي إيحاء بأنّ مبادرتها تستهدف المقاومة أو تضغط عليها، حيث تكشف المعطيات أن قيادة الحزب أبدت تفهماً للتحرك المصري وتعاطياً
واقعياً معه، إدراكاً منها أن مصر تملك ميزتين أساسيتين: الأولى أنها لا تصنّف نفسها في خانة المواجهة مع المقاومة، والثانية أنها تحافظ على علاقة منفتحة مع واشنطن وتل أبيب دون أن تنخرط في الاصطفاف الأميركي الكامل. وهي معادلة نادراً ما تتوافر في أي عاصمة عربية أخرى.
الانطباع الذي تركته زيارة اللواء رشاد في الأوساط السياسية اللبنانية هو أنّ القاهرة قررت العودة إلى الساحة اللبنانية من بابها الأوسع، أي من البوابة الأمنية - السياسية المشتركة. فبعد سنوات من الحذر والانكفاء النسبي، تعيد مصر اليوم تثبيت حضورها في لبنان، مدفوعة بقراءة دقيقة للتوازنات الإقليمية، وبقناعة أنّ استقرار لبنان يشكّل عنصراً أساسياً في الأمن القومي العربي.
وبينما تحاول عواصم دولية مقاربة الملف اللبناني من زاوية الاصطفافات أو الحسابات الضيقة، تبدو القاهرة أكثر إدراكاً لخصوصية الساحة اللبنانية، وأكثر قدرة على محاورة جميع الأطراف من دون استثناء.
لهذا، ينظر كثيرون إلى زيارة رشاد كبداية لمسار جديد، عنوانه عودة مصر إلى دورها التاريخي كـ "قلب الاعتدال العربي"، القادر على التحدث مع الجميع، من دون أن يُحسب على أحد.

alafdal-news
