ميرنا صابر - خاصّ الأفضل نيوز
في لبنان، لم يعد السرطان خبراً صحافياً عابراً ولا حالة طبيّة فرديّة، بل تحوّل إلى أزمة وطنيّة متجذّرة بأبعادها الصحيّة والاقتصاديّة والبيئيّة، بحيث يصعب فصلها عن يوميّات اللبناني المرهق. فالأرقام التي تكشفها الدراسات العالميّة تضع لبنان في موقع متقدّم جداً مقارنة بجيرانه: أكثر من ثلاثة عشر ألف إصابة جديدة تُسجَّل سنوياً وفق منظمة الصحة العالميّة، وما يزيد عن سبعة آلاف وفاة في بلد لا يتجاوز عدد سكانه ستة ملايين.
وإذا ما وضعنا هذه النسب على مقياس عالمي، فإن معدل الإصابة يصل إلى نحو مئة وسبعين حالة لكل مئة ألف نسمة، مع توقّعات باقتراب الرقم من عشرين ألف إصابة سنوياً خلال سنوات قليلة، في وقتٍ يتحدث فيه أطباء عن أنّ لبنان يسجّل أحد أعلى المعدلات في غرب آسيا. غير أنّ المأساة لا تكمن فقط في ضخامة الأرقام، بل في تمركزها في بيئات معروفة سلفاً بخطورتها.
فالجنوب لا يزال يحمل إرث الحروب الإسرائيلية وما خلّفته من شكوك حول التسربات الإشعاعيّة والمعادن الثقيلة منذ عام 2006، ليتجدّد المشهد مع الحرب الأخيرة. أما بيروت والمتن فقد تحوّلا إلى خزان للملوّثات بفعل أزمة النفايات والانبعاثات المستمرة من مولدات الديزل، فيما يغرق البقاع في المبيدات الزراعيّة الكثيفة التي لم تخضع لأي رقابة جديّة منذ سنوات.
هذه العوامل، المترافقة مع الانتشار الواسع للتدخين والنرجيلة، ومع مياه الشرب التي تُضخّ في كثير من الأحيان من مصادر غير مراقَبة، تجعل من جسد اللبناني عرضةً يوميّة لمواد مسرطِنة متعدّدة، يلتقطها بلا وعي مع كل نفسٍ وكل رشفةٍ وكل لقمة.
يشير الأطباء إلى أنّ سرطان الثدي لدى النساء يشكّل نحو ثلث الحالات المسجَّلة، فيما يحتل سرطان القولون والرئة والغدد اللمفاويّة المراتب التالية، مع ملاحظة خطيرة تتمثّل بارتفاع ملحوظ في نسب الإصابة لدى الفئات العمريّة الشابة ما دون الخمسين عاماً، وهو ما يؤكّد أنّ المسألة ليست مجرّد نتيجة لزيادة متوسط العمر، بل انعكاس مباشر للتلوّث المتفاقم الذي يطوّق اللبناني من كل الجهات. الأخطر أنّ هذه الإصابات لا تجد أمامها منظومة صحيّة قادرة على المواجهة: فتكاليف العلاج الكيميائي والإشعاعي باتت تفوق قدرة الغالبيّة الساحقة من العائلات، والأدوية المستوردة كثيراً ما تختفي من الأسواق أو تُباع بأسعار خياليّة بالدولار، فيما المستشفيات تُرهَق يومياً بين نقص الموارد الماليّة وهجرة الطواقم الطبيّة.
يؤكّد الدكتور هادي مراد لـ"الأفضل نيوز" أنّ: "السبب الأول الذي يجعل لبنان في طليعة دول المنطقة من حيث نسب الإصابة بالسرطان هو التلوّث، وبالأخص تلوّث المياه، ولا سيما مياه الأنهر والمياه الجوفيّة. فالنسبة الأكبر من الأراضي الزراعيّة في البقاع تُروى من مياه ملوَّثة". ويضيف مراد: "بعض الأورام السرطانيّة قد تكون وراثيّة، لكنها ضئيلة جداً مقارنة بتأثير التلوّث، وغالباً ما تعود إلى زواج القربى. كل هذه الأسباب وسواها جعلت من لبنان في المراتب الأولى عربيّاً من ناحية نسب السرطان".
ويتابع مراد في حديثه: "لبنان، وللأسف، لا يملك حتى اليوم مختبراً مركزيّاً مُصادقاً عليه من مجلس الوزراء لمتابعة ومناقشة وتصديق وتحليل الدواء والماء والغذاء. هذا الغياب جعل الرقابة شبه معدومة، ما وضع صحّة اللبنانيين في مهبّ الريح، إذ لم نعد نعلم فعلياً ماذا نأكل أو نشرب".
من هنا، يطرح السؤال نفسه: هل السرطان في لبنان مرض بيولوجي بحت، أم أنّه مرآة صافية لانهيار الدولة بكل أجهزتها؟ فالمريض اللبناني ليس ضحيّة الخليّة السرطانيّة وحدها، بل ضحيّة اقتصادٍ متداعٍ وفسادٍ مستشرٍ وغياب أي سياسة وقائيّة أو صحيّة مستدامة، لا سيّما أنّ لبنان، بحسب معلومات "الأفضل نيوز"، يُعدّ من أغلى الدول العربيّة من حيث كلفة العلاج السرطاني.
ولعلّ أخطر ما تكشفه المعطيات هو أنّ المواطن بات يقاتل على جبهتين: من جهةٍ يسابق الزمن ضد مرضٍ يتطلّب آلاف الدولارات شهرياً، ومن جهةٍ أخرى يواجه سلطةً غائبة جعلته يختار بين العلاج أو البقاء على قيد الحياة بكرامة. في هذا المشهد المأساوي، يصبح السؤال إلى الخبراء مشروعاً: هل نحن أمام أزمة صحيّة طارئة يمكن احتواؤها بخطط وطنيّة عاجلة، أم أمام واقعٍ طويل الأمد يجعل من لبنان فعلاً "مختبر السرطان" في الشرق الأوسط؟

alafdal-news
