ميرنا صابر - خاصّ الأفضل نيوز
في بلدٍ أنهكته الأزمات المتتاليّة وانكمش فيه الإنتاج الصناعي إلى حدّ التلاشي، يطلّ قطاع الصناعات الغذائيّة كاستثناءٍ صامد وسط الركام. بينما أقفلت مئات الورش والمصانع أبوابها، اختار هذا القطاع أن يواصل "الطبخ على نارٍ هادئة"، محوِّلاً المونة اللبنانيّة إلى سلعة عالميّة، والزعتر والمربّى إلى جواز سفرٍ اقتصادي يحمل اسم لبنان حيثما وُجد لبنانيّ مغترب يبحث عن طعم الوطن.
مصادر خاصة لموقع "الأفضل نيوز" كشفت أنّ الصناعات الغذائيّة اللبنانيّة، التي كانت قبل الأزمة تُشكّل حوالي 18% من مجمل الصادرات الصناعيّة، أصبحت اليوم تلامس فعلياً نسبة 25%، لتتحوّل إلى القطاع الوحيد تقريباً الذي يُدخل العملة الصعبة إلى السوق اللبناني باستمرار.
المفارقة أن هذا الصعود لا يعود إلى نموّ الإنتاج، بل إلى انهيار القطاعات الأخرى التي تهاوت تحت كلفة الطاقة وغياب التمويل. ومع ذلك، استطاعت المصانع الغذائيّة الصغيرة والمتوسطة أن تتحوّل إلى جسرٍ اقتصادي بين لبنان والخارج، مدعومة بشبكةٍ من المغتربين والموزّعين العرب في الخليج وأوروبا.
ويقول أحد أصحاب المصانع في زحلة لـ"الأفضل نيوز" إنّ الطلب الخليجي على المنتجات اللبنانيّة تضاعف بنسبة 40% خلال عام 2024، خصوصاً على الأصناف التقليدية ذات الطابع "البيتي" مثل الحمص، اللبنة، الحلويات الشرقيّة، والمونة الريفيّة. "اللبنانيون في المهجر يدفعون بالدولار من أجل المذاق الذي يشبه بيوتهم" وأضاف: "وهو ما أنقذ مصانعنا من الإقفال الكامل" .
لكن خلف هذا النجاح الهادئ، واقعٌ قاتم من الصعوبات. فالصناعيون يواجهون تحدّيات متشابكة: انقطاع الكهرباء، كلفة الشحن التي ارتفعت ثلاثة أضعاف، تقلب سعر الصرف، وانعدام الدعم الرسمي. بعض المصانع أنشأ مكاتب خارج لبنان لتأمين التحويلات بالعملة الصعبة بطريقة قانونيّة، فيما لجأ آخرون إلى الشراكة مع شركات توزيع إماراتيّة وقبرصيّة لضمان استمرار التصدير.
أحد الخبراء الاقتصاديين أوضح لـ"الأفضل نيوز" أنّ: "قطاع الصناعات الغذائيّة يعيش شبه استقلالٍ اقتصادي عن الدولة، فهو يموّل نفسه بالدولار النقدي، ويعمل خارج المنظومة البيروقراطيّة المتعبة، ويعتمد على الطلب الخارجي أكثر من السوق المحلي"، لكنه يُحذّر من أنّ هذا "النجاح الفردي" قد يتحوّل إلى فقاعة إذا لم تُرافقه خطّة وطنيّة لدعم الجودة، البنيّة التحتيّة، وتشجيع الزراعة التعاقدية مع الصناعات التحويلية.
ورغم كل ذلك، يكتب هذا القطاع قصة صمودٍ استثنائيّة، في البقاع مصانع تعبئة مربّى بأحدث آلات التعبئة الأوروبيّة، وفي الجنوب ورش صغيرة تُصدّر الأعشاب العضوية إلى باريس، وفي جبل لبنان معامل تحوّل المونة البيتيّة إلى علامات تجارية إقليميّة، في كل زاويةٍ من هذا الوطن، ثمّة من يرفض أن يُطفئ الضوء في مصنعه، ولو لساعات، لأنّ لبنان ما زال يُضيء رفوف المتاجر في دبي والدوحة والرياض... بنكهةٍ لا تشبه إلا نكهته.
لبنان الذي لم ينجح بعد في تنظيم استيراده، ينجح اليوم في تصدير نكهته؛ فبين المونة والمربّى والزعتر، ثمّة اقتصاد جديد يولد من قلب الانهيار، يصدّر الطعم والأمل معاً... كأنّ الصناعة اللبنانيّة قرّرت أن تقول للعالم: نحن لا نصنع الغذاء فقط، بل نصنع الحياة.

alafdal-news
