مالك دغمان - خاصّ الأفضل نيوز
أحدثت زيارة وفد وزارة الخزانة الأميركية إلى بيروت تحولًا واضحًا في طريقة تعاطي الدولة اللبنانية مع ملف التدفقات النقدية، بعدما حمل الوفد رسائل مباشرة وصارمة تطالب بضبط أي مسار مالي يمكن أن يستفيد منه حزب الله. وقد تزامن ذلك مع إصدار مصرف لبنان التعميم الأساسي رقم 13769 في 14 تشرين الثاني 2025، والذي يُنظر إليه كإحدى الأدوات العملية التي تستجيب للضغوط الأميركية وتعيد تنظيم حركة الأموال داخل السوق اللبناني.
ضغط أميركي واضح وتوجيهات محددة
شدّد الوفد الأميركي الذي ضم مسؤولين عن مكافحة تمويل الإرهاب على أن لبنان يقف أمام «مرحلة حاسمة» يجب خلالها الحدّ من الاستفادة المحتملة لحزب الله من النظام المالي، سواء من خلال مكاتب الصرافة أو شركات التحويل أو التداولات النقدية والذهبية والرقمية. كما ركّز الوفد على جمعية «القرض الحسن» بوصفها “بنكًا موازٍ” ينبغي مراقبته بصرامة.
التعميم 13769: تشديد في التوثيق والمراقبة
التعميم الجديد ألزم المؤسسات المالية غير المصرفية باعتماد نماذج KYC محدّثة وجمع بيانات موسّعة عن العملاء، وتوثيق أي عملية نقدية تساوي أو تتجاوز 1000 دولار من خلال نموذج RFI يُرسل إلى مصرف لبنان خلال يومي عمل فقط. كما حدّد مهلة قصيرة لتطبيق النماذج على العملاء الجدد حتى مطلع كانون الأول، وعلى العملاء الحاليين خلال ستة أشهر، مع التلويح بعقوبات للمخالفين.
انعكاسات القرار: بين التقنين والازدواجية
في قراءة اقتصادية للقرار، يرى الكاتب علي نور الدين أنّ جوهر التعميم لا يكمن في بنوده بحدّ ذاتها بل في طريقة تطبيقه. ويشير إلى أن هذه الإجراءات ليست جديدة بالكامل، إذ سبق أن فُرضت قيود مشابهة في الماضي عبر تحديد سقوف للتحويلات واشتراط تعبئة نماذج خاصة، لكن فعالية هذا النوع من القرارات تتحدد دائمًا من خلال درجة الجدية في التنفيذ.
بحسب نور الدين، قد يتخذ التنفيذ منحًى شكليًا، يقتصر على استكمال النماذج المطلوبة دون رقابة فعلية، فيتحول الأمر إلى «عملية ورقية» هدفها إرضاء الخارج لا أكثر. وفي مثل هذا السيناريو، لن يطرأ أي تغيير جوهري على السوق، ولن يتأثر الصرافون أو حجم التداولات النقدية بشكل فعلي.
إلا أنّ نور الدين يرى أنّ المسار الأكثر تعقيدًا يظهر إذا قرر مصرف لبنان تطبيق التعميم بصرامة. ففي هذه الحالة، سيُفرض تقنين واضح على عمليات الصرف والتحويل، وقد تُطلب مستندات وإثباتات لكل عملية. ويؤكد أن هذا الأمر، إن تحقق، سيعيد لبنان إلى ثنائية سعر الصرف عبر نشوء سوق شرعي مضبوط وسوق موازٍ غير شرعي يستوعب غالبية العمليات — وهي نتيجة شبه حتمية في بلد تقوم تداولاته المالية بدرجة كبيرة على الكاش.
تحويلات المغتربين: مصدر القلق الأبرز
ويُلفت نور الدين إلى أن الجزء الأكثر حساسية في التنفيذ يتعلق بتحويلات المغتربين التي تشكّل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني. فإذا طُبق التعميم بحذافيره، سيُطلب من المرسل في الخارج والمستلم في الداخل تبرير مصدر الأموال والغاية منها عند تجاوز السقوف المحددة، ولكنه يبقى في إطار ميسر خصوصًا وفي بلد يعتمد على تحويلات أبنائه، وقد تكون لهذا الأمر آثار اقتصادية عميقة.
هل ينجح لبنان في الاختبار؟
يشدد نور الدين على أنّ السوق اللبنانية، المعتمدة بشكل واسع على التداولات النقدية خارج الإطار المصرفي، تجعل من الصعب جدًا ضبط العمليات بالكامل. ويرى أنّ أي تشدد مفرط من قبل مصرف لبنان قد يفتح الباب لأزمة جديدة في سوق الصرف، لأن الجزء الأكبر من التداول يجري أصلًا ضمن السوق السوداء، ولأن القدرة الرقابية للدولة محدودة في ظل انهيار المؤسسات.
الرسائل الأميركية جاءت حادة، والتعميم 13769 شكّل أول ترجمة رسمية لها. لكنّ مستقبل هذه الإجراءات يتوقف على كيفية التطبيق:
هل سيكتفي لبنان بإجراءات شكلية لامتصاص الضغط الدولي؟أم يتجه نحو تشدد فعلي يغيّر وجه السوق لكنه يفتح الباب لأزمات جديدة؟
في كلتا الحالتين، يبدو لبنان مرة أخرى في قلب معركة مالية تتقاطع فيها السياسة مع الاقتصاد، وتنعكس فيها الضغوط الخارجية مباشرة على حياة اللبنانيين اليومية.

alafdal-news
