لينا شعشوع – خاص "الأفضل نيوز"
في أواخر القرن التاسع عشر، كانت بيروت تعيش واحدة من أعمق لحظات التحوّل الثقافي في تاريخها. مدينةٌ تنمو بسرعة، ومرفأٌ يتوسّع، ومدارس تبشيرية تفتح أبوابها، وحركةُ ترجمةٍ ونهضةٍ عربيةٌ تنضج في كل زاوية. وسط هذا المشهد، وُلدت الصحافة اللبنانية، لا من غرف التحرير الحديثة ولا من مؤسسات إعلامية ضخمة، بل من المقاهي.
المقهى: أول غرفة أخبار في بيروت
لم يكن المقهى مجرّد مساحة لشرب القهوة، بل كان مكانًا تُقرأ فيه الجرائد القادمة من مصر وإسطنبول وأوروبا، ويجتمع فيه كتّاب، ومترجمون، ومعلّمون، ورجال فكر لتبادل الأخبار والأفكار. ومع بداية انتشار الطباعة الحجرية، صار المقهى مركزًا لتلقّي “آخر الأخبار” قبل أن تُطبع محليًّا. ومع اتساع الاهتمام بالقراءة، أصبح المقهى فعليًّا المكان الذي تتجمع فيه المادة الخام للصحافة: الخبر، والتحليل، والنقاش، والجدل.
من المقهى إلى المطبعة
مع دخول الطباعة الحديثة إلى بيروت، ظهر جيل جديد من المثقفين الذين كانوا يرتادون المقاهي، أبرزهم مؤسسو الصحف الأولى: نقولا الصائغ (1863)، خليل الخوري مؤسّس حديقة الأخبار (1858)، سليم وبشارة تقلا مؤسّسًا جريدة الأهرام في الإسكندرية، بطرس البستاني ودوائره العلمية والثقافية، والأخوة نعّوم وعيسى وبشارة مكرزل من أبرز مؤسسي صحافة المهجر في نيويورك. كثير من هؤلاء كانوا يجتمعون في المقاهي لكتابة الافتتاحيات، وتبادل المقالات، أو حتى تحرير الأخبار التي تُنقل شفهيًّا من السوق والمرفأ. وهكذا تحوّلت المقاهي تدريجيًّا إلى مساحات تحرير غير رسمية.
المقاهي كمراكز معلومات
في ذلك الزمن، كانت المرافئ والوكالات الأوروبية ترسل الأخبار إلى بيروت عبر البرقيات. هذه الأخبار تصل أولًا إلى الوسط التجاري، ومنه تنتشر إلى المقاهي، حيث يلتقطها الصحافيون ويحوّلونها إلى مواد صحفية. لذلك أصبحت المقاهي، عمليًّا، أول وكالة أنباء شعبية في المنطقة. في مقهى “القلعة” في ساحة الشهداء، ومقهى “الحاج داوود”، ومقهى “الحمرا” لاحقًا، كان الرجال يقرأون ما يصل من صحف الأهرام، المقطم، الزمان، وصحف باريس. ومن هنا وُلدت فكرة: لماذا لا نصنع صحافتنا نحن؟
الرقابة.. أيضًا تبدأ من المقاهي
حتى الرقابة العثمانية على الصحافة بدأت ملاحقتها من هذه الأماكن، لأن المقاهي كانت نقاط تجمّع المثقفين. وكانت السلطات تعتبر المقهى المكان الذي “تنضج فيه الأفكار”، وليس فقط تُنشر.
بيروت: أول مدينة عربية تعتمد نموذج “مقهى – صحيفة”
اللافت أن هذه الظاهرة لم تكن موجودة في مدن عربية أخرى بالدرجة نفسها. صحيح أن القاهرة ودمشق وبغداد كان فيها مقاهٍ نشطة، لكن بيروت كانت المدينة التي خرجت منها الصحافة من المقهى مباشرة إلى المطبعة. فهي مدينة مرفئية، تجارية، منفتحة، فيها مؤسسات تعليمية أجنبية، ونهضة فكرية واسعة، ما جعل المقهى مجلسًا يوميًّا للنقاشات الحديثة، وبالتالي المكان المثالي لإنشاء الصحف.
لماذا اختفى دور المقاهي لاحقًا؟
مع بدايات القرن العشرين، بدأت غرف التحرير تتأسس داخل المطابع والمؤسسات الرسمية، ففقدت المقاهي دورها التحريري، لكنها بقيت المكان الذي تُقرأ فيه الجرائد وتُنقد.
لذا، يمكن القول إن الصحافة اللبنانية لم تُكتب خلف المكاتب أوّلًا، بل على طاولات خشبية في مقاهٍ مزدحمة بالقرّاء والكتّاب والمسافرين، حيث التقت الأخبار العابرة من المرفأ بالحوار الشعبي، فصنعت واحدة من أغنى التجارب الصحافية في الشرق.

alafdal-news
