ربى اليوسف - خاصّ الأفضل نيوز
هو "ChatGPT".. ملك العصر الذي يُزيح الملوك عن عروشهم، ليجلس على خزائن المعرفة وسرعة التنفيذ.
معه، أصبح الجميع عبقريًا: تريد مقالًا يُكتب في ثوانٍ؟ محرّرًا صحفيًا حاضرًا؟ صانع محتوى لا يكلّ؟… كلّه بين يديك بضغطة واحدة.
يقدّم لك الفكرة تلو الفكرة، يحلّ فروضك المدرسية وواجباتك الجامعية، يشاركك همومك العائلية، يختار لك طبخة اليوم، تفضفض له عن الحبيب والصديق… يضحك لك ويحزن معك، ويقول لك كل صباح:
"مرحبًا.. hello".
لا يعرف النوم، ولا تحتاج إلى موعد لزيارته: البيت بيتك، والفكرة فكرته.
الصحفي ماتيو وونغ، من مجلة "ذا أتلانتيك"، يرى أن الذكاء الاصطناعي قد يعيد توجيه علاقتنا بالمعرفة جذريًا، مانحًا الأولوية للإجابات السريعة المختصرة على حساب الفهم العميق وقراءة مصادر متعددة.
ورغم قدرته على تحليل البيانات بسرعة غير مسبوقة، فإن الإفراط في استخدامه قد يُضعف مهارات التفكير النقدي لدينا.
التفكير النقدي - تلك القدرة على التقييم، والتشكيك في الافتراضات، وصنع أحكام مستقلة- هو مهارة بشرية بامتياز، وربما لا يستطيع الذكاء الاصطناعي محاكاتها بالكامل، مهما تطوّر.
فهذه الأدوات تفكّر نيابةً عنا حرفيًا. وهذا، رغم فائدته، قد يحوّلنا إلى متلقّين سلبيين بدل مشاركين فاعلين في صنع المعرفة.
وهكذا يطلّ السؤال الكبير: هل نتراجع إلى حدّ تعريض قدراتنا الإبداعية للخطر؟.
خذ مثلًا لوحة "الموناليزا" التي استغرق دا فنشي 16 عامًا في تشكيلها.. واليوم، يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينتج لك عشرات اللوحات في ثوانٍ.
نجد أنفسنا أمام ذكاء اصطناعي موهوب لا موهبة بشرية، وأمام آلة أذكى لا إنسان أعمق.. ملك الملوك، شيخ الشيوخ، محبوب القلوب.. لكن روح الإنسان، في خضم هذا السباق الخارق، تخسر شيئًا فشيئًا من وهجها.
لقد غرّبتنا التكنولوجيا عن ذواتنا.. أصبح تعاملنا مع الأشياء يفوق تعاملنا مع البشر. صرنا نمدّ أيدينا إلى الشاشات أكثر مما نمدّها إلى الوجوه، نطلب من الخوارزميات ما كنّا نطلبه من الأصدقاء، ونبحث عن الطمأنينة في برامج لا تعرف معنى الخوف أو الارتجاف أو الرجاء.
التحدّي الحقيقي ليس في إيقاف هذه الأدوات، بل في ألّا نتوقف نحن.. ألا نتخلى عن مخيلتنا، ألا نتَّكل على الذكاء المصنّع حتى نعجز عن إنتاج فكرة واحدة بأنفسنا.
فالإبداع لم يُصنع يومًا على عَجَلة، ولم يولد من إجابة جاهزة، بل من رحلة بحث، من محاولة وفشل، من تلك الومضة التي لا تشبه إلا الإنسان.
الخطر الأكبر اليوم هو أن يقتل الذكاء الاصطناعي الموهبة الحقيقية، فيتحوّل البشر إلى نسخ متطابقة: يكتبون ما لا يفهمون، ويتحدثون عمّا لا يعرفون، وتُصيبهم نشوة "الأنا" التي ليست أناهم.. بل "هو":
ChatGPT… ملك الملوك، شيخ الشيوخ، ومحبوب القلوب.
وأمام هذا الواقع، يبدو العديد من المهن مهدَّد: خدمة العملاء، إدخال البيانات، الصحافة، المحاسبة، وظائف الكاشير، الترجمة، السكرتاريا، التصوير، التصميم.. وحتى الكتابة الأدبية والعلمية التي كانت تحتاج سنوات من البحث والقراءة والصبر.
صارت الآن اختصارًا للدهشة، ونسخة بلا عرق، بلا عناء، بلا تلك الروح التي تجعل النص يشبه صاحبه.
وفي النهاية، الذكاء الاصطناعي - مهما تعلّم - سيبقى نتاج عقل بشري.
والسؤال الذي سيحدد مستقبلنا ليس: إلى أي حد سيصبح الذكاء الاصطناعي ذكيًا؟ بل: إلى أي حد سنبقى نحن أذكياء.. ونبقى بشرًا؟.

alafdal-news
