ميرنا صابر - خاصّ الأفضل نيوز
في لبنان، لم يعد الحديث عن المتمّمات الغذائيّة وإبر النضارة والتنحيف تفصيلاً صحيًّا عابرًا، بل تحوّل إلى مرآة تعكس كيف يُدار الجسد اليوم كسلعة، وكيف بات السوق يتحكّم بخيارات فئة شابّة تبحث عن نتيجة سريعة في بلدٍ يعيش أصلًا على إيقاع الضغوط الاقتصاديّة والنفسيّة والاجتماعيّة.
خلال فترة قصيرة، انتقلت هذه المنتجات من هامش الاستهلاك إلى صلب الحياة اليوميّة. علبة بروتين لم تعد مرتبطة فقط برياضيّ محترف، وإبرة نضارة لم تعد إجراءً تجميليًّا استثنائيًّا، ودواء التنحيف لم يعد مرتبطًا حصرًا بحالات السمنة المرضيّة. كلّ شيء بات "عاديًّا"، بل شبه إلزاميّ، خصوصًا في أوساط الشباب الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بثقافة الصورة والمقارنة، في بلد لا يمنحهم لا الاستقرار ولا الوقت الكافي لبناء نمط حياة صحيّ طويل الأمد.
السوق اللبناني، بحكم هشاشته وضعف الرقابة فيه، شكّل بيئة مثاليّة لهذا التوسّع. فبين الصيدليّات، النوادي الرياضيّة، مراكز التجميل، والبيع المباشر عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، تتدفّق المتمّمات الغذائيّة وإبر "الترند" بوتيرة أسرع من قدرة الدولة على التنظيم. كثير من هذه المنتجات يدخل تحت عناوين فضفاضة: فيتامينات، مكمّلات طبيعيّة، حقن تعزيز الكولاجين، أو علاج للتنحيف، بينما الواقع أنّها تتحرّك في منطقة رماديّة بين الدواء والتجارة.
الفئة الشابّة هي الأكثر تأثّرًا. ليس فقط لأنّها الأكثر استهلاكًا للسوشيال ميديا، بل لأنّها الأكثر إحساسًا بالضغط. شابّ أو شابّة في العشرينات أو أوائل الثلاثينات، يعيش في بلد يفتقر إلى الأمان الوظيفيّ ويعاني من قلق دائم على المستقبل، يجد في هذه المنتجات نوعًا من السيطرة السريعة على شيء واحد على الأقلّ: الشكل الخارجيّ. الوزن، البشرة، والطاقة الجسديّة تتحوّل إلى عناصر يمكن تحسينها فورًا، حتّى لو كان الثمن صحيًّا أو ماليًّا على المدى البعيد.
إبر التنحيف تحديدًا أحدثت انقلابًا في السوق. فبعد أن كانت تُصرف في سياق طبّيّ واضح، باتت تُطلب اليوم كحلّ سحريّ، وتُقدَّم أحيانًا من دون تقييم شامل أو متابعة جدّيّة. في لبنان، حيث القدرة الشرائيّة متفاوتة، تحوّلت هذه الإبر إلى منتج طبقيّ أيضًا: من يستطيع الدفع يدخل في "اشتراك صحيّ"، ومن لا يستطيع يبحث عن بدائل أرخص أو مصادر غير موثوقة، ما يفتح الباب أمام التقليد، التهريب، والاستعمال العشوائيّ.
إلى جانب ذلك، تزدهر المتمّمات الغذائيّة كمنتج مكمّل لهذه الرحلة. بروتينات لتعويض فقدان الشهيّة، فيتامينات للشعر والبشرة، حارقات دهون، أعشاب مضمونة، وكلّها تُباع غالبًا بلا استشارة متخصّصة. في كثير من الحالات، لا يعرف المستهلك إن كان ما يتناوله ضرورة فعليّة أم مجرّد إضافة تسويقيّة صُمّمت لزيادة الربح لا لتحسين الصحّة. وهنا تتحوّل "العناية بالجسم" إلى سلّة استهلاكيّة مفتوحة بلا سقف واضح.
أمّا إبر النضارة، فقد وجدت لنفسها مكانًا مريحًا في السوق اللبنانيّ، خصوصًا في مواسم الأعياد والمناسبات. تُسوَّق كخطوة بسيطة، سريعة، وغير مؤذية، وتُربط مباشرة بفكرة الجاهزيّة الاجتماعيّة: للزفاف، للصيف، للعيد، أو حتّى لصورة على إنستغرام. المشكلة لا تكمن في الإجراء بحدّ ذاته، بل في تحوّله إلى روتين استهلاكيّ يُقدَّم أحيانًا بلا شرح كافٍ عن الحاجة الفعليّة أو المخاطر المحتملة.
اقتصاديًّا، هذه السوق تعكس نموذجًا أوسع للاقتصاد اللبنانيّ اليوم: طلب مرتفع، تنظيم ضعيف، وتسويق أقوى من المعرفة. المؤثّرون باتوا يلعبون دور الوسيط بين المنتج والمستهلك، وغالبًا ما يملأون فراغ الثقة الذي تركته المؤسّسات. توصية واحدة على شاشة هاتف قادرة على تغيير سلوك استهلاكيّ كامل، خصوصًا لدى جيل يبحث عن نتائج ملموسة في زمن قصير.
في المحصّلة، ما نشهده في لبنان ليس مجرّد ازدهار لقطاع صحيّ أو تجميليّ، بل تحوّل عميق في العلاقة مع الجسد. الجسد لم يعد مساحة للعناية الهادئة، بل مشروعًا يجب تحسينه بسرعة، وواجهة يجب أن تواكب إيقاع السوق. وفي غياب وعي كافٍ ورقابة فعليّة، تبقى الفئة الشابّة الأكثر عرضة لدفع الثمن، بين وهم النتيجة السريعة وكلفة صحيّة قد لا تظهر إلّا لاحقًا.
هذا الواقع يطرح سؤالًا أبعد من منتج أو إبرة: هل نريد سوقًا يقود خياراتنا الصحيّة، أم نظامًا يعيد الاعتبار للطبّ، للوعي، وللعناية المتوازنة؟ في بلد مثل لبنان، حيث كلّ شيء قابل للاستثمار، يبدو أنّ الجسد نفسه بات آخر ما تبقّى للمضاربة...

alafdal-news
