يحيى الإمام - خاصّ الأفضل نيوز
يخلطُ كثيرٌ من الإسلاميين بين مفهوم العروبةِ ومفهوم القوميةِ العربية، ولا يميزون بين العروبة كهويةٍ حضاريةٍ لا تنفصلُ عن الإسلام وبين القومية العربية كنهجٍ سياسيٍّ وحدويٍّ نهضويٍّ تحرُّريٍّ جامع.
فالعروبةُ ليست رابطاً عرقياً، وإنما هويةٌ حضاريةٌ لكلِّ عربيٍّ ولكلِّ مُسلمٍ يعتزُّ بإسلامه، كيف لا والإسلامُ يدعو شعوبَ الأرضِ قاطبةً لكي يستعربوا من أجل فهمِ إعجاز القرآن الكريم وتفسير آياته ومقاصد مفرداته، ويدعوهم لكي يستعربوا من أجل صحَّةِ الصلاة التي لا تصحُّ إلا باللغة العربية، والصلاةُ هي عمودُ الدين، وبين المسلم والكفر تركُ الصلاة، والقرآن الكريم عربيّ، وقد ورد في كلام الله غيرَ مرةٍ ذكرُ ذلك ،فقال سبحانه: (إنا أنزلناه قرآناً عربيًّاغيرَ ذي عوج)، والنبيُّ (ص) عربيّ، وقد ورد في مُحكمِ التَّنزيلِ قول الله تعالى (هو الذي بعثَ في الأمّيين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين)، ولغةُ أهلِ الجنة العربية، وأمكنةُ العبادةِ عربيةٌ وأزمنةُ العبادةِ عربية..
ولهذه الأسباب كان رسولُ الله (ص) يحبُّ العربَ والعروبةَ، وينهى عن شتمِ العرب كما وردَ في رياضِ الصالحين، وكان يوضحُ الهدفَ ويبيّنُ القصدَ في قوله صلَّى الله عليه وسلم : " ليست العربيةُ لأحدكم بأمٍّ ولا أبٍ ،وإنما هي اللسان"، فمن تكلمّ العربيةَ فهو عربيّ، وبالتالي فكلُّ مسلمٍ حَسُنَ إسلامُه وقرأ القرآنَ بفهمٍ وتدبّر هو بالضرورة عربيّ، ولا نقول قومياً عربيًا.
ومن هنا فإنَّنا نعتبرُ صلاحَ الدين الأيوبي عربياً لا كردياً، وطارقَ بنَ زياد عربيًّا لا أمازيغيًّا ،والبخاري والخوارزمي وسيبويه الفرس هم عرب ،ويوسف العظمة ومحمد سعيد رمضان البوطي الكرديان هما عربيان، وغير هؤلاء من الأعلام في تاريخنا الغنيِّ بالأمجاد والعطاءات للحضارة الإنسانية، وأما المسيحيُّ العربيّ، فلعلَّ ما قاله المفكرون المسيحيون الغيارى من القوميين العرب عن علاقة العروبةِ بالإسلام كافٍ لإظهار اعتزازهم بهذا الإسلامِ كدين أو كثورةٍ إصلاحيةٍ في المجتمع العربيّ، ولا مجالَ لترداد ما كتبه كلٌّ من ميشال عفلق الذي قال: (إنَّ العروبةَ جسدُ روحها الإسلام) ولا جورج حبش ومعن بشور والوزير بشارة مرهج الذي قال : ( كيف لا أفتخرُ بالإسلام العظيم الذي أغنى حضارتنا العربيةَ بكثير من القيم والفضائل ؟! ) .
وهذه الأسماء تردُ على سبيل المثال لا الحصر، لا بل أكثرَ من ذلك فإنَّ هؤلاء اعتبروا أنَّ الإسلامَ قد ارتقى بالهويةِ العربية الحضارية إلى السماء ليزيد من سموِّها وقداستها، وما كان دافعهم إلى ذلك إلا تبنيهم لفكرة القومية العربية، وإيمانهم بها كمنهجٍ سياسيٍّ وفكريٍّ قويم.
وأمَّا القوميةُ العربية فقد كانت كغيرها من القومياتِ التي سادتِ الأرضَ في بدايات القرن التاسع عشر كنتيجةٍ لتطور الفكر السياسيِّ من جهة، وكردّة فعلٍ على ما قام به الطورانيون الأتراكُ من ظلمٍ وعدوانٍ وجحود ونكران بعد انهيار السلطنة العثمانية، وقد كان أولُ من تبناها أو تناغمَ معها بحثاً عن هوية ضائعة وتحديد مصيرٍ هم حركة الوجهاء في دمشق، وثلة من العلماء الأعلام المسلمون كالشيخ الكواكبي والشيخ الأفغاني والشيخ محمد عبده، وهؤلاء لم يختاروا القوميةَ العربيةَ نهجاً بديلاً عن الخلافة، خلافاً لما يتوهمه بعضُ المضلّلين، وإنما اختاروها نهجاً جامعاً لما تفرقَ أو تمزقَ وتُرك بعد الظلم والاستبداد لقمةً سائغةً بين فكَّي قوى الاستعمار، ولأنهم وجدوا أنَّ الأمة العربية بما تمتلك من إمكاناتٍ وقدراتٍ بشريةٍ وماديةٍ وما تمتلك من مخزون حضاريٍّ يمكنها أن تقيمَ أمبراطوريةً عظمى وأن تنهضَ من جديد لتحمل الرسالة الأسمى وتبشر بها أهل الأرض وتدعوهم إلى الخير والصلاح .
وإذا كانت القوميةُ الفرنسيةُ تقومُ على وحدة الجغرافيا وتطالبُ بإقليمَي الإلزاس واللورين، والقومية الألمانية تقوم على وحدة العرق الآريِّ وترفعُ شعار "ألمانيا فوق الجميع ،والعرقُ الآريُّ الأصفر يسمو على سائر الأعراق"، فإنَّ القوميةَ العربيةَ تقوم على اللغة الواحدة والجغرافيا الواحدة الممتدة من المحيط الأطلسيِّ إلى الخليج العربيّ، والتاريخُ المشترك والعاداتُ والتقاليد والأعراف المشتركة والأماني والتطلعات المشتركة والإرثُ الفكريُّ والثقافيُّ والاجتماعيُّ ووحدةُ المشاعر القومية التي تجمع أبناء الأمة كلها.
والقوميةُ العربيةُ في الفكر الناصريّ، كما عرفها جمال عبد الناصر، "هي قوميةٌ إنسانيةٌ لا عنصرية"، فهي ليست منغلقةً على ذاتها وإنما تنفتحُ على سائر الحضارات من أجل إغناء الحضارة الإنسانية، وهي رابطةُ جمعٍ ووحدة وقوة بدل التفرق والتمزق والضعف والهوان، وهي دعوة إلى النهوض بدلَ الجمود والركود والانهزام والاستسلام، وتحرر بدل الذل والعبودية والتبعية…وقد اختصرَ القائد الخالد معانيها ومقاصدها كعنوانٍ لمرحلة نضال من أجل مواجهة أطماع قوى الاستعمار بقوله: "ارفع رأسَك يا أخي لقد ولى زمن الذل والعبودية".
وإذا كان القوميون العرب قد فشلوا فلا يعني ذلك أنَّ القوميةَ العربيةَ هي التي فشلت، وهذا ما جعلنا نكره من شاعر المرأة نزار قباني بعد هزيمة مصر عام 1967 أن يقولَ في قصيدته الشهيرة: ( أنعي لكم يا إخوتي اللغةَ القديمة.. أنعي لكم يا إخوتي الفكر الذي قاد إلى الهزيمة)، لأن الفكر لا يقودُ أبداً إلى الهزيمة، بل إنَّ ما قاد و يقود إلى كلِّ هزيمة هو الجهلُ والتبعيةُ والجمود الفكريُّ والأمية والعمالة والطائفية والعصبية الجاهلية والفساد والإقطاع، وكلها أمراضٌ جرثوميةٌ لا زالت متفشيةً في جسد الأمة تأكل منه كلما جاعت، أما الفكرُ القوميُّ العربيُّ فلا زال يدعونا إلى الوحدة والنهوض والتحرر، لا بل إنه في هذه المرحلة يشكِّلُ خشبةَ الخلاصِ وجسرَ النجاة من الفقر إلى الغنى ومن الضعف إلى القوة ومن العبودية إلى الحرية والعزة والكرامة، وإنَّ في ذلك كفاية لمن أراد هداية...