أكرم حمدان - خاصّ الأفضل نيوز
مَلَّ اللبنانيون من كثرة وتنوع الاجتهاداتِ والآراء والتحليلات والتفسيرات للنصوص القانونية والدستورية،لا سيما عند كلِّ استحقاقٍ دستوريّ، وتكثرُ هذه الاجتهادات كلما اقتربنا أو دخلنا في موعد استحقاقٍ جديدٍ أو داهم، ومن الطبيعيِّ أن ترتفعَ وتيرةُ هذه التفسيرات والاجتهادات عند تحديد موعد كلِّ جلسة من جلسات انتخاب رئيس للجمهورية التي لم يتوصلوا فيها إلى نتيجة حتى الآن وما زلنا بانتظار الموعد، حيث عاد النقاشُ والجدل حول تفسير بعض المواد،خصوصًا ما يتعلق بالنصاب المطلوب في اجتماع مجلس النواب لانتخاب رئيسٍ للجمهورية، وتفسير مضمون المادة 49 من الدستور، وما إذا كانت تُحدد نصابًا مختلفًا عن النصاب العادي المحدد في المادة 34 لجهة صحة اجتماع المجلس وقانويته.
وقد ارتفعت وتيرةُ النقاش حول هذا الأمر بعدما تحركت وتيرة المشاورات واللقاءات على أكثر من جبهة، ولا سيما بعدما أطلق كلٌّ من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط محركاتهما باتجاه فتح ثغرةٍ أو كوة في الجدار الرئاسيِّ المقفل حتى الآن ،وبالتالي عاد الحديث إلى إمكانية تجميع 65 صوتًا لمرشح ما، وتكرار تجربة انتخابات رئاسة مجلس النواب ونيابة الرئاسة.
بانتظار أن تتبلور حركة الاتصالات الداخلية التي تواكبها حركة خارجية، ربما تفتح الطريق أمام الاستحقاق الرئاسيّ، من المفيد التذكير بالمواقف والآراء والتفسيرات المتناقضة لمسألة النصاب والخلط بين نصاب الانعقاد ونصاب الانتخاب.
يرى بعضُ الخبراء في القانون الدستوريِّ أنَّ نصَّ المادة 49 من الدستور فيه الكثير من الغموض والالتباس، ويحمل التأويل والتفسير، ولا سيما الفقرة الثانية التي تقول بأن ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السريِّ بأكثرية ثلثي مجلس النواب بالدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في الدورات التي تليها، وهي بالتالي مادةُ انتخاب لا مادة نصاب.
وينقسمُ الفقهاء الدستوريون بين رأيين، الأول يقول: إنَّ النصابَ يجب أن يكون عاديًّا، أي استنادًا إلى المادة 34 من الدستور، والثاني يقول: إنه يجب أن يتماهى نصاب الانتخاب، مع نصاب الحضور. وهناك من يُطالب بالحفاظ على 86 صوتًا،وآخر يُطالب باعتماد نصاب 65 في الدورة الثانية في جلسة الانتخاب، بينما العرف الدستوريُّ ومنذ العام 1976 حتى اليوم يعتمدُ نصابَ الثلثين، بهدف الحفاظ على ميثاقية الرئيس وعلى أكبر قدر ممكن من الإجماع حوله.
وهناك اليوم شبه إجماع بأنَّ النصابَ الذي يؤمن المظلة الميثاقية للرئيس هو 86، لاسيما أنَّ رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، ويقتضي أن يأتي، إن لم نقل بإجماع، بل بشبه إجماع.
وللتذكير، فإنَّ عرَّابَ اتفاق الطائف والمؤتمن على محاضره ، الذي غادرنا منذ أسابيع، الرئيس حسين الحسيني، كان له شرح وتفصيل حول مضمون المادة 49 من الدستور التي عُدِّلت للمرة الأولى في اتفاق الطائف منذ عام 1926، رغم تعديلين حدثا عامي 1927 و1929 كانا عابرين، وإضافة الفقرة الأساسية إلى بداية المادة من اقتراح الحسيني بنفسه بعد مناقشة مسوَّدة الاتفاق مع البطريرك الماروني الراحل مار نصر الله بطرس صفير ، ثم مع النواب في الطائف.
ويقولُ الحسيني في أحاديث صحفية: "حتمًا نصاب الثلثين هو نصاب انعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في كلِّ الدورات، ثبات هذا النصاب ناجمٌ عن الفقرة الأولى المحدثة في المادة 49 عندما تتحدث عن رئيس الجمهورية على أنه رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور، فلا يصحُّ عندئذ انتخابه إلا في حضور ثلثي مجلس النواب على الأقل، وانتخاب الرئيس في حضور ثلثي المجلس هو المعبّر الفعلي عن الدور الجديد لرئيس الجمهورية أن يكون في موقع سامٍ يمكِّنه من ردِّ أي فئة عن الإخلال بالدستور والقانون، ولم نُرِد في المادة 49 انخراط رئيس الجمهورية في أي موقع سوى أنه الحكم بين الجميع، لا أن يتدخل يومًا في تعيين نواطير الأحراج".
هذا التعريفُ لموقع رئيس الجمهورية ولأهمية نصاب جلسة انتخابه، أثار بلبلة وإرباكًا لدى القوى السياسية المصطفة والمنقسمة بين فريقين أساسيين حول كيفية مقاربة الاستحقاق الرئاسيّ، حيث يرى البعض أنه ما دام الدستور لم يفرض نصابًا خاصًّا بجلسة اننتخاب رئيس الجمهورية، عندئذٍ يُكتفى بالنصاب العادي، أي نصف أعضاء مجلس النواب بزيادة واحد (65 نائبًا). أمّا البعض الآخر فيرى، بدعوى المصلحة الوطنية العليا، ألّا ينتخب رئيس الجمهورية بالنصاب العادي المحدد في المادة 34 من الدستور، وبالتالي يجب انتخابه بنصاب "الثلثين".
كذلك فإنَّ الدستور تضمن قواعد صريحة بشأن النصاب المطلوب في اجتماعات مجلس النواب، مميزًا بشكل واضح بين النصاب المطلوب لصحة عقد الاجتماعات وبين الأكثرية المطلوبة في التصويت.
في المحصّلة، سنبقى أسرى الاجتهادات والتفسيرات والتداخل بين السياسيِّ والدستوريِّ عند كل محطة أو استحقاق دستوريٍّ وفقًا لأهواء القوى السياسية ومصالحها، وليس مصلحة البلاد والعباد وحماية الدستور والالتزام بما ينصُّ عليه.