الدكتور علي ناصر ناصر- خاص الأفضل نيوز
تمهيد
خرجت في أنحاء العالم مظاهرات تعارض الحرب التي تشنها إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة ودول الغرب، على الفلسطينيين في قطاع غزة وتطالب بإيقافها، شملت المظاهرات معظم دول العالم وكان وقعها داخل الولايات المتحدة عميقا. رغم كل ذلك لم تتحرك الولايات المتحدة لوقفها بل صرح جميع المسؤولين في الإدارة الأمريكية أنهم يعارضون وقف الحرب، واستخدموا الفيتو داخل مجلس الأمن ثلاث مرات لمنع وقف إطلاق النار. تعامل المسؤولون في الإدارة الأمريكية مع التظاهر كظاهرة اجتماعية تفترض المعالجة وليست أحد وجوه التعبير عن الرأي العام تفترض تعديلاً في السياسة القائمة. تتجه الديمقراطية في الغرب بصفتها تعبيراً عن نظام قيم إلى التراجع والأفول بفعل التصادم مع المصالح السياسية للقوى المهيمنة على القرار السياسي.
التظاهر والديمقراطية والولايات المتحدة
تعتمد قوة النظام السياسي على مدى قربه من الطبيعة الإنسانية للإنسان، والحرية جوهر هذه الطبيعة وتشكل أحد الأسس الشرعية لأي نظام قائم، ويشكل التظاهر والتعامل مع التظاهر أحد تجليات تلك الطبيعة بصفته تعبيراً عن اتجاه الرأي العام وهو الجوهر والشكل معا الذي يميز نظاماً سياسياً عن آخر.
تضم الديمقراطية العديد من الآليات التي تقود إلى حرية الإنسان وتعتبر حرية التعبير جزءاً من تلك الآليات ويدخل التظاهر في أسس حرية التعبير وحقوق الإنسان ويعبر التظاهر في مضمونه عن "تجمع سلمي لعدد من الأفراد في أماكن عامة للتعبير عن رأي أو مطلب معين" ويعكس اتجاه مؤيد لسياسة ما أو معارض لها، وفي كلتا الحالتين هو شكل من أشكال التعبير يندفع إليها الرأي العام كتعبير ناشط وفعال ومؤثر في وجه السلطة القائمة.
تتعامل الولايات المتحدة مع التظاهر كحق ديمقراطي وتستخدمه كحجة في وجه الأنظمة التي تعارض توجهاتها وتطالب تلك الأنظمة بالخضوع لمطالب المتظاهرين السياسية أو إدخال تغييرات على البنية السياسية لتلك الأنظمة كما حصل في "الربيع العربي"، وكما تعاملت مع تظاهرات أوكرانيا عام 2014، وهونغ كونغ عام 2019، وساحة "تيان إن مين" في الصين عام 1989.
السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط
يتقدم الصراع الدولي على منطقة الشرق الأوسط أسس السياسية الخارجية الأمريكية ويأتي في هذا السياق الصراع مع روسيا والصين ويأخذ في مضمونه مفاهيم الجغرافيا السياسية، ويشكل النفط والسيطرة على منابعه أحد أهداف السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة ويأخذ في مضمونه الأدوات الاقتصادية، بينما الطابع الأمني للسياسة الخارجية الأمريكية يأخذ شكل الحفاظ على أمن "دولة إسرائيل" وهي من الأهداف الحيوية التي تتبناه الولايات المتحدة منذ تأسيس الكيان.
تحدد هذه الأهداف بنية السياسة الخارجية الأمريكية وترسم الإستراتيجيات ويجري العمل على تنفيذها وفق تكتيكات معينة. يشكل بناء السياسة الخارجية سنوات والتغيير يفترض أيضاً سنوات لأن التفاعلات التي تشكل بنية النظام الدولي والتي تبنى على أساسها السياسة الخارجية تحدث بفعل تراكمات وتأخذ سنوات. تتعامل الولايات المتحدة مع الصراع والحروب داخل الأقاليم الدولية ومنها الشرق الأوسط، كأداة تؤدي إلى خدمة الإستراتيجيات الأمريكية سواء كانت هذه الحروب مفتعلة أمريكياً أو من صنع قوى أخرى حيث تعمل في هذه الحالة على إدارتها وضبط مفاعيلها.
التظاهر والفعالية السياسية
يأتي الحديث عن فعالية التظاهر بالحديث عن طبيعة النظام السياسي والمطالب التي يرفعها المتظاهرون، فالنظم الديكتاتورية يختفي فيها التأثير السياسي للتظاهرات، والنظم الديمقراطية يبقى تأثير التظاهر متعلقا بشكل أساسي بالشؤون الداخلية بينما السياسة الخارجية تصنع استراتيجيتها من قبل النظم السياسية وفقا لتوازنات إقليمية ودولية معقدة وعادة لا يساهم الرأي العام المحلي بصنعها.
تنتج الفعالية السياسية للتظاهر بمدى ارتباط الأحداث الخارجية بالسياسة الداخلية للدولة، فالتدخلات العسكرية للولايات المتحدة وكلفتها البشرية تنعكس على الإداء السياسي لصانع القرار الأمريكي، وتدفع به إلى اتخاذ خطوات سياسية خاصة مع تحول المظاهرات إلى نشاط اجتماعي فاعل ومستمر، وبالتالي ستحدث أثراً سياسياً، وهذا الأمر لا يتحقق بلحظة سياسية واحدة بل يتطلب تظاهراً مستمراً قد يستغرق سنوات، وله أثر متصل مباشرة بمصالح المجتمع.
وهذا ما حث خلال حرب فييتنام حيث بدأت التظاهرات منذ عام 1964 وكان لها دور فاعل في انسحاب الرئيس ليندون جونسون من الإنتخابات الرئاسية عام 1968 وأستمرت تلك التظاهرات حتى عام 1973 تاريخ الإنسحاب الأمريكي من فيتنام حيث شكلت عملية ضغط مستمرة على صانع القرار الأمريكي.
لقد شكلت طبيعة التظاهرات ومدى المشاركة فيها والخسائر التي حلت بالمجتمع إلى خوف صانع القرار السياسي من خسارة فادحة على الساحة الدولية فعمل على إعادة التكيف وهذا يفسر زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى الصين عام 1972 في عملية تهدف إلى الإلتفاف على الهزيمة التاريخية في فيتنام.
عكست التظاهرات إنقساماً حاداً داخل المجتمع فأقدم صانع القرار على أستيعاب الرأي العام وتراجع خطوة إلى الوراء لكنه في المقابل أعاد بناء استراتيجياته، وهذا يعني أن صانع القرار لم يندفع إلى إعادة بناء سياسته الخارجية وتغيير أهدافها، بل قام بإعادة رسم استراتيجيات مختلفة لتحقيق الأهداف المرسومة.
التظاهر في الولايات المتحدة والحرب على غزة
أخذت المظاهرات داخل الولايات المتحدة أشكالاً متنوعة من المسيرات والتجمعات والوقفات الاحتجاجية، وعكست طبيعة الديمقراطية والحرية داخل المجتمع الأمريكي، وفي نفس الوقت شكلت مأزقا لصانع القرار الأمريكي في التوفيق بين المصالح والأداء السياسي ومطالب المتظاهرين والالتزامات الدولية. تمثلت مطالب المتظاهرين بوقف إطلاق النار وإغاثة السكان في غزة، وكانت جميع المظاهرات سلمية، باتَ عدد المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين أوسع وأشمل من تلك المؤدية للإسرائيليين وذلك ابتداءً من الأسبوع الثاني للحرب، أي أن الرأي العام في الغرب والولايات المتحدة بدأ يتعاطف أكثر مع الشعب الفلسطيني منه مع "دولة إسرائيل" وذلك في ظاهرة هي الأولى منذ تأسيس الكيان عام 1948. وبدأت القوى المهيمنة على صناعة القرار تمارس الضغوط بأشكال مختلفة على المتظاهرين المعارضين للعمل العسكري على قطاع غزة خاصة فئة الطلاب في عملية تتعارض مع مبادئ الحرية والديمقراطية وخاصة حرية التعبير.
نظمت مئات المظاهرات وشملت العديد من الولايات والمدن الأمريكية ويخشى الرئيس بايدن من تأثيرها السلبي عليه في الانتخابات الأمريكية القادمة التي ستجري في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. وبلغت كافة المستويات والقطاعات والجامعات وكان لها تأثير على الثقافة الأمريكية في مقاربة المسائل الدولية ومنها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ذاته، وفقد الإعلام التقليدي قوته التأثيرية وقدم نفسه بصفته إعلاما رسميا يعكس سياسة الدولة والقوة الحاكمة، وبرز الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي كمؤثر ومساهم في صناعة الرأي العام.
استنتاج
تمثل التظاهرات التي حدثت داخل الولايات المتحدة الأمريكية احتجاجاً على حرب غزة نقطة تحول في الرأي العام الأمريكي. حاول صانع القرار الأمريكي استيعاب حركة التظاهر فجعل منها محدودة التأثير ولم يغير في اتجاهاته السياسية أو يعدلها وتجاوز في ذلك مفهوم الحرية والديمقراطية والمنفعة العامة. تتعامل قوى السلطة في الإدارة الأمريكية مع الرأي العام بصفته اتجاهات وآليات يمكن التحكم بها وتوجيهها وإداراتها وهي عملية تقنية تتجاوز الخير العام وترتبط بالمشاريع والمخططات القائمة. يتجه الغرب بفعل عدم تجدد الآليات الديمقراطية من الحكم الديمقراطي إلى حكم الأوليغارشية (أقلية خاصة مالية واقتصادية) أي أن أصحاب الثروة والنفوذ هم الذين يتحكمون بالفعل بالقرار السياسي مما يؤدي إلى أضرار فادحة تلحق بالقيم الديمقراطية. حصلت التظاهرات التي تطالب بوقف الحرب على غزة في النظم الديمقراطية وشبه الديمقراطية ولم يكن لديها أي تأثير سياسي فعال حيث إن المصلحة السياسية للنظام السياسي تفوق اتجاهات الرأي العام. يتطلب التغيير في السياسة الخارجية مجموعة من المعطيات تأخذ سنوات ويعكس التظاهر اتجاهات الرأي العام الذي يشكل عملية ضغط مستمرة على صانع القرار وحتى يكون مؤثراً وفعالاً لا بد له من مضمون سياسي.

alafdal-news
