د.علي ناصر ناصر_خاص الأفضل نيوز
تشير استطلاعات الرأي أن 30% من الناخبين الأوروبيين من جيل الشباب الذين تبلغ أعمارهم أقل من 24 عاماً ومن الذين سيقترعون-لأول مرة- يفضلون اليمين واليمين المتطرف في خياراتهم السياسية والانتخابية.
وانعكس ذلك على نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة، ومن المتوقع أن هذه النسبة في تزايد بفعل الأزمات المتلاحقة لدول الاتحاد الأوروبي وعدم قدرة الأحزاب الحاكمة على التوصل لحلول موثوقة ومستدامة على مختلف الصعد الاقتصادية والسياسية والأمنية.
أظهرت نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي جرت من 6 حتى 9 حزيران حصول أحزاب اليمين، التي تؤيد وضع قيود على التكامل الأوروبي، على ما يزيد عن 25% من أصوات الناخبين، بينما حصلت "أحزاب الوسط"، المؤيدة للتكامل الأوروبي، على ما يزيد عن 56% من أصوات الناخبين الأوروبيين، هذه النسبة ستمكنها من إدارة شؤون الاتحاد والتحكم بالمفوضية الأوروبية، ولكن ستظهر قيود تتعلق بالتشريعات المرتبطة بالهجرة والطاقة والنقل والبيئة وهي مهام يقرر فيها البرلمان الأوروبي المنتخب عام 2024 الذي يمارس مهامه لمدة خمس سنوات. بالإضافة إلى العمل على تجفيف ميزانية الاتحاد الأوروبي كونها تستنزف الميزانية الوطنية.
البرلمان هو المؤسسة الأولى للاتحاد الأوروبي وفيها تنعكس رغبات الشعوب بالمستوى المطلوب من الوحدة الأوروبية ومنذ عام 1979 يتم انتخاب أعضاء البرلمان مباشرة من قبل "مواطني الاتحاد الأوروبي"، وهي الانتخابات الأولى للبرلمان بعد خروج بريطانيا منه، ويعقد اجتماعاته في مقره الرئيسي في مدينة "ستراسبورغ" الفرنسية ومقر "الاتحاد الأوروبي" في العاصمة البلجيكية "بروكسيل". شارك في انتخاب أعضاء البرلمان الأوروبي البالغ عددهم 270 نائباً أوروبياً ما يزيد عن 180 مليون ناخب، وهي نسبة مرتفعة مقارنة مع الدورات السابقة. يتمتع البرلمان الأوروبي بسلطة واسعة مرتبطة بالقوانين التي تصدر عنه والتي تتعلق بالتكامل الأوروبي، والسوق الأوروبية المشتركة، والهجرة، والبيئة، والزراعة، وغير ذلك. على الرغم أن المقاعد محددة وفقاً لعدد سكان كل دولة إلا أن البرلمان الأوروبي ينتظم في أطر سياسية وعقائدية متقاربة وتتخطى الحدود الوطنية لكل دولة.
أسفرت النتائج الانتخابية عن هزيمة لحقت بحزب الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، وحزب المستشار الألماني "أولف شولتس" حيث فضل الناخبون في فرنسا وألمانيا أحزاب المعارضة "اليمنية المتطرفة" و"يمين الوسط" عليهما. وحققت "أحزاب اليمين" في إيطاليا، وألمانيا وهولندا، والنمسا، وبولندا، تقدماً ملحوظاً على حساب "أحزاب الخضر" والليبراليين، لكن على الرغم من الاتجاه اليميني للانتخابات إلا أن الأحزاب اليمينية المتطرفة لم تتمكن من تحقيق نصر حاسم، وسوف تحتفظ الأحزاب الأوروبية الوسطية بالأغلبية في البرلمان الأوروبي المنتخب، ولكن نتائج الانتخابات ستترك تداعياتها على أوروبا الموحدة وقيادتها الفرنسية والألمانية على الأقل خلال الخمس سنوات القادمة.
سيشكل اليمين المتطرف ما نسبته 25% من البرلمان الأوروبي ولكن الائتلاف المؤيد للتكتل الأوروبي بقيادة "أحزاب الوسط" سيبقى يشكل الأغلبية بما نسبته 56% من البرلمان الأوروبي، وبناءً عليه هناك تأثيرات محتملة يمكن لها أن تعرقل مسيرة الاتحاد الأوروبي نحو الاندماج والتطور.
اضطرابات سياسية في فرنسا
أولى النتائج السياسية لانتخابات البرلمان الأوروبية ظهرت في فرنسا عندما حل الرئيس الفرنسي الجمعية الوطنية ودعا إلى انتخابات برلمانية مبكرة خلال ثلاثة أسابيع التي قد تشكل تغييراً درامتيكياً في السلطة في فرنسا، خاصة عندما نعرف أن حزبه حصل على نسبة 15% من أصوات الناخبين، مقابل 31% لحزب التجمع الوطني اليميني. ويعارض التجمع الوطني عمليات التكامل الأوروبية ويسعى إلى الحفاظ على الخاصية الفرنسية اتجاه الاتحاد الأوروبي، والتخفيف من المدفوعات الفرنسية لميزانية الاتحاد وتجاهل تطبيق القوانين التي تتعارض والقوانين الفرنسية، ويتبنى سياسة متشددة اتجاه قوانين الهجرة، إضافة إلى معطى خارجي يتعلق بالحرب الأوكرانية الروسية حيث التجمع الوطني يقترب سياسياً من روسيا ويبتعد عن المفهوم الأمريكي اتجاه الصراع مع روسيا، ولكن التجمع لا يسعى لمغادرة الاتحاد الأوروبي. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ليس من الضرورة أن تتطابق نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية مع تلك التشريعية الفرنسية، لا من حيث نسبة المشاركة، ولا من حيث طرق إدارتها، وتكتيكاتها الانتخابية، فكلاهما يخضع لقانونين انتخابيين مختلفين، لذلك مهما كانت نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية فهي محاولة من الرئيس الفرنسي لرأب الصدع بين فرنسا الأوروبية وفرنسا الوطنية والخشية أن تؤدي الانتخابات التشريعية الفرنسية إلى تثبيت الصدع الذي فرزته الانتخابات الأوروبية.
الميثاق الأخضر والكلفة العالية
تشكل الأجندة البيئية عامل إشكالي داخل الاتحاد الأوروبي بسبب كلفته العالية، والاعتراض على القوانين البيئية واسع خاصة من قبل المزارعين التي أجبرت الاتحاد الأوروبي على التراجع عن عدد من القواعد البيئية. في نفس السياق تعارض الأحزاب اليمنية "السياسات الخضراء" للاتحاد الأوروبي. في الانتخابات التي جرت عام 2019 سيطر موضوع البيئة على عقل الناخب الأوروبي وكان حافزاً في خياره الانتخابي والسياسي، بينما في الانتخابات 2024 تراجع موضوع البيئة وسيطر على عقل الناخب الأوروبي الهجرة والأمن والحرب بين أوكرانيا وروسيا، وتراجع موضوع البيئة ظهر جلياً في الخسارة التي لحقت بالأحزاب الخضراء التي تراجعت حصتها من 10% إلى 7% من مقاعد البرلمان الأوروبي.
جميع التشريعات التي أقرت سابقاً وضعت آليات تنفيذها وهي في طور التطبيق قد نجد هنا عملية إبطاء أو عرقلة لبعض التطبيقات التي تفترض دوراً للبرلمان، ولكن العرقلة من المؤكد سترتبط بالتشريعات الجديدة المتعلقة بالبيئة، ولكن هناك اتجاه لدى "أحزاب الوسط" على معالجة الآثار السلبية للقوانين البيئية والتراجع عن بعضها مما قد يؤدي إلى عدم تمكين اليمين المتطرف من التعبئة الشعبوية في هذا المجال. وسيدفع كل ذلك إلى تباطؤ حركة توسع ونمو الاتحاد الأوروبي.
توسع الاتحاد الأوروبي والمسألة الأمنية
تؤدي توسعة الاتحاد الأوروبي إلى تكاليف إضافية تتحملها الدول الأكثر ثراءً فيه مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وتوسعة الاتحاد عملية سياسية أمنية تتعلق بالأمن الأوروبي والمواجهة مع روسيا وهي ضمن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي الذي يماشي السياسة الأمريكية ضمن نسق تتبناه الأحزاب المسيطرة على الحكم، وهو توجه تعارضه معظم أحزاب "أقصى اليمين". إن انضمام دول مثل جورجيا وصربيا وكوسوفو وأوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي سيزيد من الأعباء الاقتصادية على دول الاتحاد وهو ما حدث سابقاً مع بولندا ورومانيا وهي كلفة انعكست على واقع الاقتصادات الوطنية مما دفع أحزاب اليمين في دول أوروبا الغربية إلى عدم تقبل القوانين القائمة والمطالبة بإعادة صياغتها. وتظهر هنا إشكالية تتعلق بتوسعة الاتحاد الأوروبي بحيث أن التكتل أمام الحاجة الأمنية لانضمام الدول المجاورة لروسيا إليه، وكلفة هذا الانضمام التي تأكل من رفاهية المواطن في أوروبا الغربية التي دفعت بالأحزاب اليمينية إلى تقديم نفسها بوصفها قريبة من المواطن العادي وعملت على إظهار النخب التكنوقراطية الحاكمة بأتها لا تكترث لمصلحة المواطنين الأوروبيين. وهناك تداعيات تتعلق بالطبيعة الاقتصادية للدول المدعوة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بحيث سيؤدي دخول أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي إلى تضرر القطاعات الزراعية في معظم دول الاتحاد بفعل طبيعة السهول الأوكرانية الزراعية الخصبة التي تعد "سلة الغذاء لأوروبا".
يفترض مسار الوحدة الأوروبية أن يدخل في عملية تقييم شاملة تشكل عناوينه الرئيسية المسألة الأمنية والعلاقة بروسيا وسيؤدي ذلك بالضرورة إلى تقييم العلاقات الأمريكية الأوروبية فالاتحاد الأوروبي ملحق عملياً بالسياسة الأمريكية بكافة أحزابه الحاكمة. وتقدم الأحزاب اليمنية في الانتخابات الأخيرة مرتبط بالموقف من الحرب الأوكرانية الروسية وبالتبعية الأوروبية للسياسة الأمريكية ومن هنا خيار توسعة الاتحاد لتضم دول ملاصقة لروسيا وإظهار العداء لها لم يرق للناخب الأوروبي. هل تدفع نتائج الانتخابات الأوروبية إلى إعادة صياغة السياسات الخارجية للاتحاد الأوروبي وبناء سياسة داخلية توازن بين المصلحة الوطنية والمصلحة الأوروبية أم أنها ستستمر في السياسات القائمة؟