د. علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
لم يسبق للكيان الغاصب أن واجه حربا وجودية، مثل تلك التي يتعرض حاليا لها على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة من قبل حزب الله. فبعد آلاف القرون، ها هو التاريخ، يشهد من جدد قصة طائر الهدهد الذي حمل هذه المرة رسالة من قوم مجاهدين صالحين، إلى المفسدين في الأرض (أي الصهاينة) مفادها: بأن بنيانكم الذي بنيتُموه غصبا، سيتحول إلى رماد تذروه الرياح، إذا فكرتم بالهجوم على لبنان.
وعليه، فإن حفلة الضربات الاستراتيجية اليومية التي تتلقاها إسرائيل حاليا منذ 7 اكتوبر الماضي من قبل عناصر حزب الله، على أجزاء كبيرة من المساحة الجغرافية للجليل (بشقيه الشرقي والغربي) إلى جحيم لا يطاق بكل ما للكلمة من معنى، ستشمل في حال قامت تل أبيب بأي مغامرة غير محسوبة، كافة أراضي الكيان الغاصب، لكن بشكل أعنف كمًّا ونوعًا وأكثر دقة، إلى حد أن السماء ستمطر صواريخ ومسيرات دون توقف.
من هنا، وبعيدا عن تفاهات وكلام البعض وتحمسهم لقدرة العدو الصهيوني على شنّ حرب كبيرة لإبعاد حزب الله عن الشمال الفلسطيني ــــ وهي بالمناسبة تصورات نابعة من أحقاد دفينة أو تخيلات وهمية لا تمت إلى الحقيقة القائمة بصلة ــــ فلنحتكم إلى ما يقوله المنظّرون الاستراتيجيون الصهاينة أنفسهم، وإقرارهم بالعجز أمام ما يفعله الحزب من قتل يومي لجنودهم، وتدمير لمواقعهم وحتى لأنظتمهم العسكرية المتطورة كالقبة الحديدية مثلا.
نظرية الأمن الإسرائيلي بين الماضي والحاضر
عمليا، إن حجم الضرر الذي ألحقه حزب الله بإسرائيل، غير مسبوق إن من ناحية الخسائر المادية أو الأمنية. وتبعا لذلك، لا تكتف تل ابيب، بإقرارها، بإجلاء ما يقرب من 100،000 مستوطن من الحدود الشمالية.
لكن الأكثر أهمية (والكلام هنا ننقله حرفيا عن معهد سياسة الشعب اليهودي "JPPI") : هو نجاح المقاومة بتحويل جزء كبير واستراتيجي من إسرائيل إلى منطقة عازلة، وهو انتهاك لأحد المبادئ الأساسية "لعقيدة الدفاع الوطني الإسرائيلية" كما وضعها ديفيد بن غوريون (من المؤسسين لدولة الكيان الغاصب) في خمسينيات القرن العشرين.
ينطلق اصحاب وجهة النظر هذه، من أن بن غوريون كان أدرك جيدا أن إسرائيل ليس لديها أي عمق استراتيجي، وبالتالي لا يمكنها تحمل تكاليف خوض الحروب على أراضيها، لذا عمد إلى وضع استراتيجية عسكرية لجيش الاحتلال، تقوم على الحاجة إلى نقل المعركة دائما إلى أرض العدو. ويستدل المعهد على ذلك، بالنكبة التي مني بها جيشهم في 7 أكتوبر الماضي عندما وجد جنود الاحتلال ، عناصر "حماس" داخل منازلهم وقواعدهم العسكرية، بعد لحظات فقط من عبورهم إلى مستوطنات غلاف غزة.
لهذه الغاية، حرصت الحكومة الفاشية، على تجنب حدوث ذلك في الشمال، فعمدت إلى إجلاء مستوطنيها، مع الاعتراف بالحقيقة المرّة التي تواجهها وهي التنازل عن الأراضي لعدوها (أي حزب الله). وهذا شيء لم يحدث من قبل في التاريخ الإسرائيلي.
أما الطامة الكبرى بالنسبة لإسرائيل، أن جيشها الذي لطالما أنشأ مناطق أمنية في الماضي، في أراضي "الأعداء" مثل: الشريط الحدودي في لبنان من عام 1982 حتى عام 2000، وبالطبع، السيطرة الإسرائيلية على قطاع غزة من عام 1967 حتى فك الارتباط في عام 2005، فقد وجد نفسه أسير هذه المعادلة.
إجلاء مستوطني الشمال وانتصار "حزب الله"
في الحقيقة، يتهم العديد من الخبراء والقيادات العسكرية الصهاينة، الحكومة الإسرائيلية الفاشية برئاسة بنيامين نتنياهو، بالتهرب من مصارحة شعبها بالواقع القاسي جراء قيامها بإجلاء سكان مستوطنات الشمال لحمايتهم. ويعتبرون أن هذه الخطوة، إنما منحت حزب الله انتصارا ساحقًا، يواصل الاستفادة منه بشكل دائم من خلال إطلاقه وابله اليومي من الصواريخ والطائرات الانتحارية بدون طيار، إضافة إلى الصواريخ الموجهة الدقيقة المضادة للدروع على معظم الرقعة الشمالية لفلسطين.
أكثر من ذلك، يفنّد هؤلاء الخبراء والقادة الصهاينة الوضع القائم بالشمال "بلغة لا تخلو من التهكم" مشيرين إلى أنه: إلى جانب حماية مواطنيها، كان لدى إسرائيل دافع آخر لإبعاد الناس عن الشمال. فبرأيهم أرادت إعطاء حزب الله أهدافا يمكنها ضربها دون الحاجة إلى الرد بالقوة. لذا لو بقي المستوطنون في المنازل، لما كانت إسرائيل قادرة (بزعمهم) على تحمل هجمات حزب الله، وكان عليها أن ترد بأقسى وأبكر.
إسرائيل بين رسائل الهدهد ونصرالله "حزب الله" وخيار الحرب غير المحسومة النتائج
يعتبر كبار المنظرين السياسيين الصهاينة، أنّ مسألة ماذا يجب أن نفعل بالشمال هي مزيج من عوامل تتعلق بالسياسة والأمن والدبلوماسية، لذا وعند قراءة للاحداث والمستجدات والتطورات الأخيرة التي حصلت داخل الكيان، نجد أن الحرب على لبنان تبدو مستبعدة، نظرا للأسباب التالية:
أولا: لا يرغب العالم في خوض حرب إسرائيلية أخرى، ضد فئة (ذات إمكانيات عسكرية وبشرية وتسليحية هائلة) في دولة تستثمر فيها الولايات المتحدة وفرنسا بشكل خاص ونعني بذلك لبنان.
ثانيا: عدم سعي نتنياهو إلى حرب أخرى مكلفة وغير مضمونة النتائج، فضلا عن أنها ستكون أكثر تدميرا للجبهة الداخلية الإسرائيلية مما هو حاصل هذه الأيام نتيجة حرب غزة. زد على ذلك أن رئيس الحكومة الفاشية نتنياهو، استطاع أخيرا تحقيق بعض التقدم في استطلاعات الرأي، وعليه، يمكن لحرب جديدة ، مع المزيد من الضحايا، أن تغير هذا المسار، وهو أمر لا يرغب به.
ثالثا: وصول الشعب الإسرائيلي إلى حالة حرجة من التعب والإرهاق النفسي والمعنوي، نظرا لحالة الحرب التي يعيشها منذ أكثر من حوالى 9 أشهر، وبالتالي إن التفكير في صراع آخر أصعب وأطول هو أمر صعب الهضم والقبول.
رابعا: إن أحد أهم الأسباب التي جعلت إسرائيل تتراجع حتى الآن عن القيام بعدوان على لبنان (وفقا لمعهد سياسات الشعب اليهودي) يرجع إلى التقييم السائد بأنه في اللحظة التي تنتهي فيها الحرب في غزة، سيوقف حزب الله أيضًا هجماته، وسيتمكن سكان الشمال من العودة إلى منازلهم (بشكل واضح)، بعد إعادة الإعمار ونشر قوات كبيرة من جيش الإسرائيلي على طول الحدود.
خامسا: الإنجاز الاستخباراتي للمقاومة، بعد نجاح طائرة "الهدهد" باختراق سماء الكيان المحصنة، وإجرائها مسحًا شاملًا ودقيقًا لكافة الأهداف والمنشآت العسكرية والاستراتيجية والمطارات والمؤسسات وحتى الشوارع الإسرائيلية، ثم عودتها بسلام وأمان. ولا شك أن هذه الخطوة، "ستفرمل" أي اندفاعة إسرائيلية لشن حرب على لبنان.
سادسا، كلام قائد المقاومة في لبنان السيد حسن نصرالله، والسقف العالي الذي اعتمده في خطابه الأخير، حول جهوزية المقاومة وقدراتها النوعية والاستخباراتية وإمكاناتها البشرية و التسليحية ورسائل التهديد المباشرة التي أرسلها للقادة الصهاينة والأمريكيين وحلفائهم (كقبرص) وتحذيره من الاستعداد لتحويل البرّ والبحر والجو في الكيان، إلى ساحة حرب مفتوحة دون ضوابط أو قواعد.
وعليه، نظرا لهذه العوامل جميعا، تحسب إسرائيل ألف حساب، قبل القيام بأي مخاطرة من شأنها تصعيد الوضع إلى حرب شاملة – بما فيها مهاجمة أهداف لحزب الله في الضاحية كمثال – خصوصا الآن، مع تزايد الحديث عن فرص التوصل إلى اتفاق مع حماس لإنهاء الحرب، وإعادة الأسرى الرهائن، وربما جميعهم.
لكن ماذا عن الدعوات الإسرائيلية الأخرى للحرب على لبنان؟
على الضفة المقابلة، ثمة آراء إسرائيلية أخرى وازنة، تدعو للحرب وتروج لها، مع اعترافها بأن جميع هذه التفسيرات والأسباب (أعلاه) منطقية، لكنهم يرون أنها تغفل عن المشكلة الحقيقية، ألا وهي أن القابضين على القرار في الجيش كلهم، جزء من عقلية 6 أكتوبر، ويتسائلون لماذا يمكن لإسرائيل احتواء التهديد القادم من لبنان وعدم اضطرارها للتعامل معه الآن.
ينطلق أصحاب هذه النظرية، من تجربة 7 تشرين الأول (أكتوبر) التي علّمت الإسرائيليين أن الاحتواء لا يجدي نفعاً، ويسألون هل : "تنتظرون أن يقتحم العدو الحدود ويسيطر على منازلنا ويقتل شعبنا ويختطفه".
ويخلص دعاة الحرب إلى القول: ما يتجاهلونه في المؤسستين السياسية والعسكرية، هو أن تهديد حزب الله لن يختفي. فسوف تنمو قوته، وتصبح أقوى، وعندما تأتي الحرب في نهاية المطاف، ستكون أكثر تدميرا لإسرائيل.
في المحصلة، خيارات إسرائيل محدودة، وقادتها منقسمون، ما بين عقلاني يرى مشهد الحرب من دائرة أوسع خصوصا لجهة تداعياتها الكارثية على الكيان. في حين أن هناك آخرون يعتبرون أن الحكومة نتنياهو بذلت كل ما في وسعها لتجنب حرب أوسع مع حزب الله، إلا أن هذا ربما لم يعد ممكناً. لكن هذا الرأي، كان قبل أن يدخل الهدهد إلى فلسطين ويعود منها محملا بمشاهد أدخلت السرور إلى بيت وقلب كل مواطن حرّ ووطني ورافض للظلم في هذا الكون.
أما الآن، وبعد جولة الهدهد الظافرة، بات واضحا للإدارة الأمريكية التي تملك قرار الحرب والسلم، عدم جدوى أي مغامرة إسرائيلية جديدة، قد ترتدّ خرابا ووبالا على الكيان هذا من جهة. أما من جهة ثانية، فإن آخر ما تريده واشنطن، هو أزمة أو حرب أخرى، قد تصرفها عن أولوياتها، في الداخل (الفوز على الخصم الشرس دونالد ترامب، إضافة إلى احتوائها موجة العداء ضد الديمقراطيين بسبب مذابح غزة) بينما اهتمامها الأكبر منصبّ هذه الايام، على ملفات ساخنة بالخارج، مثل أوكرانيا ومنطقتي المحيط الهندي والهادي حيث تتطلب المواجهة مع الصين وحدها تبريد الجبهات الساخنة في الشرق الأوسط.

alafdal-news
