نبيه البرجي - خاص الأفضل نيوز
لعقود اعتاد الفرنسيون على النظر إلى الدولة اللبنانية كصنيعة فرنسية، ما دامت صناعة فرنسية، ثم إلى وديعة فرنسية، على الأقل وديعة ثقافية.
لذلك دأبوا على تحذيرنا من أن لبنان آيل إلى الزوال إذا ما بقي على ذلك الاجترار العبثي للأزمات، باعتبار أن من قام بتركيب هذه الدولة الأكثر دراية بما يجري فيها وحولها.
من يجعل لبنان دولة قابلة للبقاء؟ كان السفير الفرنسي السابق رينيه آلا يقول "لبنان ينتج اللبنانيين"، كدلالة على تميز اللبنانيين، مع خشيتنا من أن يقول السفير الحالي هيرفيه ماغرو "لبنان يتقيأ اللبنانيين"، حين يشاهد أن هناك من يتصدى طائفيًّا، وسياسيًّا، لثقافة التنوع، كعامل أساسي في نشوء مجتمع ديناميكي وخلاق.
كل ما يحدث يشير إلى أننا لا نزال ورثة القرن التاسع عشر، بالرغم من أن إقامة إسرائيل على حدودنا، كظاهرة توراتية (وإسبارطية)، وحيث الخلط المروع بين الهاجس الأيديولوجي، والهاجس الاستراتيجي، كانت تفترض أن تحدث زلزالاً في وعينا السياسي، وفي وعينا الوطني، دون أن يعني ذلك الدعوة إلى الانصهار، وحيث ينتفي التفاعل بين الطوائف، وبين الثقافات، ليحل محلّه التّعفّن.
نعلم ما هو دور الأيدي الغليظة في قطع الطريق بيننا وبين بناء دولة تكون على تماس مباشر مع مقتضيات الحداثة.
هنا نتوقّف عند قول باريس، وهذا ما ألمح إليه جان ـ إيف لودريان أمام أكثر من جهة سياسية، أن ثمة قوى خارجية لا تزال تراهن على إعادة صياغة خرائط المنطقة وفق مشروع المستشرق الأميركي برنارد لويس، والذي أقرَه الكونغرس عام 1993، ليتم التركيز، ومن أجل حماية أمن الدولة العبرية، على كل من لبنان وسوريا (وحتى العراق)، حتى ليبدو أن حال الهلهلة التي وصلنا اإليها مبرمجة وبمنتهى الدقة.
المشكلة أننا الأرض الخصبة لذلك. ففي عام 1860، وضع الوزير البريطاني و. طومسون كتاباً بعنوان "الأرض والكتاب" ورد فيه ما يأتي حول لبنان ما قبل الدولة:
"أن هناك حوالي 400000 إنسان ينتشرون في 600 ضيعة وبلدة، تجمع أديانًا، وإثنيات مختلفة مع بعضها البعض، حاملة هواجسها، ومتناقضة غير منصهرة في بوتقة واحدة، فالسّنّة والشّيعة يكرهون الدروز، وثلاثتهم يبغضون النصيريين والعلويين، كذلك لا أحد يهتم بحب الموارنة، لا بل أن الجميع يكرهونهم.
أما الأرثوذكس فلا يحبون الكاثوليك. والجميع يكرهون اليهود ظاهرًا، ويتعاملون معهم باطنًا".
ما ورد أيضًا "... وأنا لا أعتقد أنه يوجد شعب في العالم يحمل مثل هذه التناقضات... وهم لن يتمكّنوا أبداً أن يكونوا شعباً واحداً، وأن يتفاهموا على موضوع سياسي واحد. كذلك سيبقون ضعفاء، غير قادرين على حكم أنفسهم، ومعرّضين للاحتلال، والضغط من الخارج".
هذا كلام من نحو أكثر من 150 عامًا، وإن كانت قد تغيّرت نظرة الطوائف إلى بعضها البعض، فكما لو أن طومسون يصف الوضع الآن، لنتوقف عند قول يوري لوبراني، منسق الشؤون الإسرائيليّة في لبنان إبّان الاحتلال، في كتاب رؤوفين آرليخ "المتاهة اللبنانية"، "منذ أن تحوّل لبنان إلى دولة سياديّة، وهو يجلس على موائد الآخرين".
وإذا كان المبدأ الروماني يقول "سلامة الوطن هي القانون الأسمى" (Salus patria suprema lex)، يقال لنا في عاصمة عربية "كل ما نراه على الخشبة اللبنانية هو اللعب في الوقت الضائع، مع تحذيرنا من أن المؤسسة اليهودية، بتأثيرها الأخطبوطي، تبدو الآن في حالة هيستيرية، بعد "المصائب" التي حلّت بإسرائيل، وهي ستبذل أقصى جهدها لزعزعة الدولة اللبنانية، حتّى لتفجيرها.
وعلى هذا الأساس قد تكون مسألة انتخاب رئيس للجمهورية آخر ما تفكرون به".
المثير هنا أنّ الإنكليز يطمئنون إلى أنّ التسوية في لبنان آتية، وهذا هو الموقف الأميركي المتخوف إلى أبعد الحدود من المواجهة، الواسعة النطاق بين لبنان وإسرائيل، لأن ذلك يعني أن الحرائق ستمتد إلى سائر أرجاء الشرق الأوسط.
وهم يرون أن الوضع الدولي بعيد جداً عن الغوص في لعبة الخرائط. لا تفجير بل الستاتيكو، ليبقى السؤال... أي نوع من الستاتيكو؟!