د. علي دربج _خاصّ الأفضل نيوز
من نكد الدهر أن السودان، الذي بإمكانه أن يوفر الطعام والغذاء للعالم العربي بأكمله، إذا ما سُمح له باستغلال أراضيه وثرواته الزراعية المذهلة، تطرق المجاعة أبوابه هذه الأيام، في واحدة من أسوأ الكوارث التي قد تشهدها ثالث أكبر دولة في أفريقيا.
وغني عن التعريف أن السودان يعاني من حرب أهلية مدمرة منذ 15 شهرًا، تسببت بكوارث ورعب لا يوصف. وعلى الرغم من أن أرقام الضحايا ليست واضحة على الإطلاق، فقد أشار كبير المبعوثين الأمريكيين إلى المنطقة مؤخرًا إلى أن حوالي 150 ألف شخص ربما قتلوا منذ تفجر الصراع بين أمراء الحرب المتنافسين العام الماضي. والآن تزعم الأمم المتحدة أن نحو 750 ألف شخص على حافة المجاعة. ويشبه المسؤولون الغربيون ما يحدث حاليًا بالمجاعة التي ضربت الصومال عام 2011، وأودت بحياة حوالي ربع مليون شخص، نصفهم من الأطفال.
وماذا تقول الأرقام عن تداعيات الحرب الأهلية في السودان؟
في الحقيقة، أدت الحرب الأهلية في هذا البلد إلى خلق العديد من الآثار والتداعيات الكارثية على كافة الأصعدة البشرية والتعليمية والغذائية والصحية والسكنية. يُعدّ السودان موطنًا لأكبر أزمة نزوح داخلي في العالم، حيث أجبر القتال حوالي 11 مليون شخص على الفرار من منازلهم. ويواجه أيضًا أفظع أزمة تعليمية في العالم، حيث تم إغلاق معظم المدارس، مما حرم حوالي 19 مليون طفل من حضور فصولهم الدراسية. أكثر من ذلك، يعاني نحو 26.6 مليون شخص - أكثر من نصف السكان - من "انعدام الأمن الغذائي"، بحسب وكالات الأمم المتحدة، كما تم إعلان 14 منطقة في البلاد "معرضة لخطر المجاعة".
من هي الجهات المتحاربة في السودان؟
عمليًا، تتعرض البلاد للتفكك والتمزق نتيجة الصراع الدائر بين عبد الفتاح البرهان، القائد الأعلى للجيش السوداني، ومحمد حمدان دقلو، المعروف عالميًا باسم حميدتي، رئيس قوات الدعم السريع شبه العسكرية، وهي فصيل يعود تاريخه إلى الحملات الإبادية لميليشيا الجنجويد في منطقة دارفور الغربية قبل عقدين من الزمن.
ما أسباب الصراع؟
يرتبط الصراع بتشابك المصالح الجيوسياسية المتضاربة للعديد من الدول الداعمة للطرفين. والمؤسف أنه بدلاً من دفن الأحقاد، يبدو أن كلا الطرفين مصممان على إراقة المزيد من الدماء بينهما، مما يهدد باتساع دائرة الحرب لتشمل جميع أنحاء البلاد بعد اشتعالها في العاصمة، الخرطوم، في أبريل/نيسان 2023.
والأسوأ من ذلك، أن الأطراف المتناحرة تتقاذف الاتهامات بشأن المعاناة التي يتعرض لها السكان المدنيون، مع وجود تقارير عديدة عن وقوع مذابح وعمليات اغتصاب جماعية وغيرها من الفظائع، إضافة إلى القصف والغارات الجوية المدمرة للأحياء السكنية بشكل عشوائي.
وتشير المعلومات والمقاطع المصورة القادمة من مناطق المعارك إلى وجود حالات موثقة لجرائم حرب من قبل الطرفين. ليس هذا فحسب، فقد أدى انتشار أعمال النهب والعنف إلى تدمير المحاصيل الزراعية في السودان، وتبعا لذلك، تشكو جماعات الإغاثة من الصعوبات الكبيرة التي تواجهها في إيصال المساعدات إلى المناطق المنكوبة.
من هنا، وفي جولة لمراسلي صحيفة "واشنطن بوست" في خمس مدن سودانية، تحدث السكان عن الأخطار التي واجهوها وما زالوا، حيث يعاني الأطفال من صعوبة في التنفس في المستشفيات، بينما يروي آباء آخرون قصصًا عن أطفال نائمين قُتلوا في أسرتهم عندما سقطت قذائف المدفعية على أحيائهم.
وأفاد العديد من السجناء والجنود على حد سواء عن شبان أُطلقت عليهم الرصاص بعيدًا عن منازلهم، وتحللت جثثهم بسبب الحرارة، قبل أن يتم إلقاؤهم في قبور مجهولة.
الجدير بالذكر أن القوى المتصارعة اتفقت على المشاركة في مفاوضات جديدة، برعاية كل من الولايات المتحدة والسعودية، ومن المقرر عقدها في سويسرا الشهر المقبل. وتعليقًا على ذلك، قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن في بيان الأسبوع الماضي: إن هذه المحادثات تهدف إلى التوصل إلى وقف العنف على مستوى البلاد، وتمكين وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المحتاجين، وتطوير آلية مراقبة وتحقق قوية لضمان تنفيذ أي اتفاق.
وماذا عن الوضع الإنساني الحالي في السودان؟
في الواقع، تحذر منظمات الإغاثة من أن الجيش السوداني – الذي يمثل الفصيل المعترف به رسميًا من قبل الأمم المتحدة – يعيق تدفق المساعدات الغذائية الحيوية إلى المناطق الغربية من البلاد التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، التي تساهم هجماتها بدورها أيضًا في نقص الغذاء في المناطق المعروفة بسلة الخبز في السودان. فغالبًا ما تكون الإمدادات التي تعبر الحدود عرضة للنهب أو المصادرة وتحويلها إلى مناطق نفوذ المتحاربين.
علاوة على ذلك، فإن إمكانية وصول منظمات الإغاثة إلى المجتمعات المعرضة للخطر والتي تشهد نقصًا في الموارد اللازمة، أمر نادر. صحيح أن مؤتمر المانحين الذي عقد في باريس في أبريل/نيسان الماضي كان قد تعهد بنحو ملياري دولار للسودان – أي نصف المبلغ الذي طلبته الأمم المتحدة - لكن الأموال الموعودة لم تصل بالكامل بعد.
إلى جانب ذلك، نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" عن منظمة "ميرسي كوربس" أن ربع الأطفال في ولاية وسط دارفور يعانون من سوء التغذية لدرجة أنهم قد يموتون قريبًا. والمثير في الأمر أن برنامج الأغذية العالمي، وهو أكبر منظمة إنسانية في العالم بميزانية قدرها 8.5 مليار دولار في العام الماضي، يقرّ بأن تقديم المساعدات يصبح مع الوقت أمرًا صعبًا للغاية.
في المحصلة، بالرغم من هذه المآسي والكوارث التي تضرب السودان، تستمر الأسلحة بالتدفق إلى أطراف الصراع. ولهذه الغاية، وثقت منظمة العفو الدولية في إحاطة حقوقية الأسبوع الماضي وجود أسلحة وذخائر جديدة من دول متنوعة مثل الصين وروسيا وصربيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة واليمن، قد تم استيرادها "بكميات كبيرة إلى السودان"، ثم جرى نشرها في ساحات القتال، بما في ذلك منطقة دارفور المظلمة، الخاضعة لحظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة منذ عقدين من الزمن.