د. علي دربج باحث وأستاذ جامعي - خاص الأفضل نيوز
لساعات طويلة نجحت نائب الرئيس كامالا هاريس في هزّ صورة غريمها، الرئيس دونالد ترامب، فضلًا عن إحراجه وتهشيم صورته، وأحيانًا الاستهزاء به والنيل، من تناقضاته أمام ملايين الأمريكيين بمن فيهم أنصاره، وذلك خلال المناظرة المدوية التي جمعته معه، وبثتها شبكة ABC من فيلادلفيا وشاهدها 67 مليون مشاهد أمريكي، ليلة الثلاثاء الماضي، إلى درجة أن حلفاء ترامب كافحوا للإضاءة على جانب مشرق واحد لكلامه.
بعد المناظرة الأولى لهاريس، تنفس الديمقراطيون في جميع أنحاء البلاد الصعداء، لا سيما أن الأخيرة حظيت بإجماع واسع النطاق من قبل غالبية الخبراء والمراقبين، وحتى استطلاعات الرأي أكدت بأنها الفائزة الواضحة، إلى حدّ أن بعض النخب الإعلامية من مؤيديه، مثل بريت هيوم من قناة فوكس نيوز، قال على الشبكة بعد ذلك: "لا تخطئوا في ذلك، لقد قضى ترامب ليلة سيئة... إحساسي هو أنها خرجت من هذا في حالة جيدة جدًا."
الجدير بالذكر أن الفائز في المناظرة لا يُحدد فقط بناءً على ما حدث على المسرح، بل أيضًا من خلال الحرب الإعلامية التي تليها. فالسردّ حول من فاز، والاتفاق الجماعي بين المعلقين، يُناقش بشكل مستمر في الأيام التي تلي المناظرة — وفي هذه الحالة، الرواية الحقيقة تقول التالي: هاريس فازت من خلال استفزاز ترامب بفعالية.
دلالات ومؤشرات فوز هاريس بالمناظرة
علميًّا، في الأيام التي سبقت المناظرة، بدا أن الحماس الذي كانت كامالا هاريس تتمتع به منذ صعودها المفاجئ كمرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة، معرضًا لخطر التلاشي.
فاستطلاعات الرأي، أظهرت أن السباق كان متقاربًا جدًا. وأيضًا، ارتفعت الانتقادات لهاريس بسبب تجنبها إلى حدّ كبير إجراء مقابلات إعلامية في أماكن غير منظمة. حتى أن استطلاعًا أجرته صحيفة نيويورك تايمز بالتعاون مع "كلية سيينا"، الأحد الفائت، كشف أن ترامب يتقدم بفارق نقطة مئوية واحدة على الصعيد الوطني — وهو نتيجة ممتازة لترامب، نظرًا لانحياز المجمع الانتخابي ضد الديمقراطيين.
وفي السياق ذاته، كشفت مجموعة نقاش أجرتها صحيفة واشنطن بوست (بعد المناظرة) استطلعت آراء 24 ناخبًا مترددًا غير حاسم من ولايات متأرجحة، أن 22 منهم رأوا أن هاريس أبلت بشكل أفضل. كما أكد استطلاع رأي قامت به شبكة CNN ، أن 63% من مشاهدي المناظرة، أعربوا عن اعتقادهم، أن هاريس فازت.
إشارة إلى أنه، من الممكن أيضًا أن لا يكون للمناظرة تأثير كبير على استطلاعات الرأي — أو، إذا ساعدت هاريس، فقد يكون التأثير مؤقتًا فقط، كون من المحتمل أن تستجد أحداث أخرى قد تغير في نسب استطلاعات الرأي في الشهرين القادمين، قبل يوم الانتخابات.
هاريس وخداع ترامب واستفزازه
في الواقع، عند التدقيق في وقائع المناظرة، نجد أن هاريس أكدت رسالتها الأساسية بأن ترامب يهتم فقط بنفسه وليس بالأمريكيين العاديين. وكررت، عدة مرات، أن خطتها الانتخابية تتضمن تخفيضات ضريبية للأسر الشابة وخصومات مماثلة للشركات الناشئة الصغيرة.
وأعربت عن غضبها من إلغاء قضاة المحكمة العليا الذين عينهم ترامب لحقوق الإجهاض على المستوى الوطني. كما وعدت بتوحيد الأمريكيين بدلاً من تقسيمهم، وقالت إنها تمثل جيلًا جديدًا من القيادة.
ليس هذا فحسب، فقد نجحت هاريس في خداع ترامب واستفزاره، عدة مرات لدفعه إلى الانغماس في نرجسيته. فعندما سُئلت عن الهجرة، زعمت أن الناس غالبًا ما يغادرون تجمعات ترامب في وقت مبكر. هنا، لم يستطع ترامب مقاومة استغلال بعض وقته لتوضيح أن مسيراته رائعة وأن الجميع يحبونه.
وبالرغم من ذلك، كانت هناك بعض اللحظات المشكوك فيها بالنسبة لهاريس. كان من الواضح أنها لا تريد التحدث عن التضخم، ولا ترغب في الانجرار إلى نقاش حول سجل بايدن، على عكس خطتها الضريبية.
وحين سُئلت عن سبب توقفها عن دعم بعض المواقف التقدمية للغاية التي اتخذتها أثناء ترشحها للرئاسة في عام 2020، لم تقدم إجابة واضحة عن السبب.
ولماذا خسر ترامب؟
في الواقع، قبل المناظرة، تحدث محللو الانتخابات، عن أن ترامب يحتاج إلى القيام ببعض الأمور لكي يحظى بليلة قوية. إذ كان بحاجة إلى أن يتلافى الاستمرار في التركيز على ربط هاريس بسجل إدارة بايدن الذي لا يحظى بشعبية في الاقتصاد والهجرة والسياسة الخارجية، كما توجب عليه أن يتجنب حقول الألغام بالنسبة له بشأن أضعف قضاياه، كالإجهاض والديمقراطية. والأهم، عدم تبنيه الخطاب الصاخب أو نظريات المؤامرة. لكن، الكارثة، انه فشل في معظم هذه الأمور.
ففيما يتعلق بالإجهاض، نسب ترامب الفضل إلى المحكمة العليا في نقض قضية "رو ضد وايد" (المتعلقة بمنع تشريع الإجهاض)، قائلاً إن ذلك حدث "من خلال عبقرية وقلب وقوة" القضاة المحافظين. كما تهرب مرارًا من الإجابة عن سؤال حول ما إذا كان سيستخدم حق النقض (الفيتو) ضد حظر وطني للإجهاض، إذا أرسل الكونغرس مثل هذا القانون إلى مكتبه.
وقال إن الكونغرس لن يمرر مثل هذا الحظر. ومع ذلك، رغم الفرص المتعددة، لم يتمكن من القول بوضوح إنه سيستخدم الفيتو على هذا القانون، ربما خشية إثارة غضب حلفائه المؤيدين (لحق الجنين بالحياة)، الذين عبروا عن سخطهم مؤخرًا نظرًا لفشله في التعامل مع هذه القضية.
ليس هذا فحسب، فعندما سُئل عما إذا كان يندم على أي شيء فعله في 6 يناير 2021، حينما هاجم أنصاره مبنى الكابيتول الأمريكي، لم يستطع تقديم أي شيء. الأمر الوحيد الذي اشتكى منه هو أنه في خضمّ الفوضى داخل المبنى، أصيب أحد أنصاره، آشلي بابيت، بالرصاص على يد ضابط شرطة خارج عن السيطرة، على حد قوله، (كان بابيت وغيره من مثيري الشغب الغاضبين يحاولون اختراق الحاجز الأخير الذي يفصلهم عن أعضاء الكونغرس الخائفين على حياتهم).
أما السقطة الكبرى التي وقع فيها، فهي أنه تحدث لأكثرَ من مرة، عن نظريات مؤامرة سخيفة ومهينة وعنصرية حول المهاجرين الذين يأكلون القطط والكلاب، أو الولايات الأمريكية، التي تعدم الأطفال بعد ولادتهم.
لكن ما لبث أن تم تكذيبه، في أعقاب انتهاء المناظرة. حيث أوضح ديفيد موير، أحد معدي المناظرة، للمشاهدين أنه "لا توجد ولاية في هذا البلد يكون فيها قانونيًا قتل طفل بعد ولادته."
وبالمثل، قام موير مرة أخرى بالتحقق من صحة الادعاء حول أكل المهاجرين للقطط والكلاب، قائلًا إن ABC News "تواصلت مع مدير المدينة هناك. أخبرنا أنه لم تكن هناك تقارير موثوقة عن حالات معينة من الأذى أو الإصابة أو إساءة المعاملة للحيوانات الأليفة من قبل أفراد من المجتمع المهاجر."
أكثر من ذلك، في وقت متأخر من المناظرة، ادعى ترامب أن هاريس "هي بايدن". لكنه حتى في هذا الاتهام، لم يكن ثابتًا وموفقًا. ففي وقت سابق من المساء، أصر ترامب على أن الرئيس جو بايدن "يكره" هاريس و"لا يستطيع تحملها".
وهنا مُنيّ ترامب بانتكاسة أخرى، كون بنى استراتيجية حملته، على تحميل هاريس مسؤولية اخفاقات بايدن، وهذا جعله عرضه لسهام النقض من قبل المراقبين.
صحيح أن ترامب ضرب هاريس بشأن التضخم والحدود مرارًا، لكن، يبدو أنه من غير المحتمل أن تترسخ أي من هذه الرسائل، في أذهان الناخبين من أنصاره، كونه كان يقول العديد من الأشياء الغريبة وغير المنطقية الأخرى، التي استحوذت على اهتماماتهم أكثر.
أما أقوى مؤشر على هزيمة ترامب، فهو أن أنصاره لجأوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي للشكوى بصوت عالٍ من المشرفين - وهي خطوة تشكل انعكاسًا للتذمر من الحكام عندما لا تكون النتيجة كما كانوا يأملون.
وكيف كان أداء ترامب وهاريس حول السياسة الخارجية؟
في الحقيقة، كشفت المناظرة عن ضعف ترامب وقلة معرفته بأمور السياسة الخارجية. الأمر الذي لاحظه المشاهدون عبر استحضاره واستشهاده برؤساء دول يصفهم قسم كبير من الأميريكيين بالخصوم وحتى بالأشرار. فهو ادعى بأنه سيحظى باحترام أكبر على الساحة الدولية مقارنةً بهاريس، بدءًا باللقاء اللوم على إدارة بايدن بشأن الخروج الفاشل للولايات المتحدة من أفغانستان، مع أنه هو من بدأه.
وما زاد الطين بلة، تطرق ترامب إلى "العلاقة الجيدة" التي تربطه بالرئيس الروسي، وشكواه من أن الرئيس جو بايدن "لم يتصل حتى هاتفيًا خلال عامين ببوتين".
ثم جاء استشهاده برئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، وهو يميني متطرف، يربطه تحالف مع الصين وروسيا، بمثابة الحفرة التي وقع فيها، كون الرئيس المجري مكروه من قبل القيادات الأمريكية السياسية والعسكرية.
إضافة إلى ذلك، كانت أكثر تصريحاته إثارة للقلق بالنسبة لهذه القيادات، هي تلك التي لم يقلها. فعندما سأله ديفيد موير، مقدم ABC News، "سؤالًا بسيطًا للغاية": "هل تريد أن تنتصر أوكرانيا في هذه الحرب؟" وبدلاً من أن يجيب ببساطة بـ"نعم"، رد ترامب: "أريد أن تتوقف الحرب." وزعم ترامب أنه سينهي الحرب في الفترة بين الانتخابات والتنصيب. وكالعادة، لم يشرح كيف سيحقق هذا الإنجاز المعجِزة.
بالمقابل، تعرضت هاريس للضغط بسبب عيوبها السياسية، رغم أنها تتمنى الخير لأوكرانيا، وتجاهر بنيتها بدعمها، فإنها لا تملك خطة لتحقيق النصر في أوكرانيا. أيضًا علاوة على ذلك، أنها لا تملك خطة لإنهاء الحرب بين إسرائيل وغزة، كما أوضحت في إجابتها على سؤال حول كيفية كسر "الجمود" بين إسرائيل و"حماس."
في المحصلة
إن أي شخص شاهد المناظرة يمكن أن يرى أن هاريس كانت هادئة وثابتة، بالمقابل، بدا ترامب عاطفيًا وغير مستقر.
وتبعا لذلك، علق أحد الصحافيين الأمريكيين ويدعى ماكس بوت على ذلك بالقول ساخرًا: إذا كان ترامب فقد رباطة جأشه، عندما تساءلت هاريس عن حجم حشود مؤيّديه، فكيف سيكون أداؤه في المفاوضات مع رجال أقوياء فعليين مثل الرئيسين الكوري الشمالي شي جين بينغ، أو الروسي فلاديمير بوتين؟