د. علي دربج - خاص الأفضل نيوز
لا يمكن فصل العدوان الإسرائيلي الإلكتروني على لبنان يوم الثلاثاء الماضي عن الفشل الميداني الإسرائيلي على الحدود الجنوبية، وبقدرة المقاومة على تخطي جميع أحدث أجهزة الرصد والتجسس في البر والبحر والجو، وتوجيه ضربات قاتلة ومدوية للكيان الغاصب، هو ما شهده العالم من خلال مشاهد الطائرات المسيرة وهي تصول وتجول في سماء الجليل وكأنها في نزهة.
إن ما جرى يدخل في إطار الحرب الأمنية القائمة بين إسرائيل وحزب الله منذ عقود طويلة، حيث سجّل فيها الطرفان النقاط على بعضهما البعض، وإن كان لا يمكن التقليل من خطورة هذا الاختراق الإسرائيلي الكبير.
علاقة الاختراق بالعجز الإسرائيلي في الشمال
في الواقع، إن الرغبة الإسرائيلية في توجيه ضربة أقوى لحزب الله تعكس الرؤية العامة لدى الإسرائيليين بأن البلاد لا تستطيع تحمل حرب استنزاف مطولة مع المقاومة التي تستمر يومًا بعد يوم في توسيع رقعة هجماتها الصاروخية على امتداد مساحة شمال إسرائيل، الأمر الذي أجبر أكثر من 200,000 إسرائيلي على إخلاء منازلهم في الشمال، تاركين خلفهم ما يعادل مدنًا أشباحًا.
أكثر من ذلك، فإن الضغط السياسي للتعامل مع "الشمال"، كما يسميه الإسرائيليون، أصبح شبه مكافئ للرغبة في حرية الرهائن. وفي هذا السياق، تنقل صحيفة الواشنطن بوست عن مصدر مطلع على التفكير الإسرائيلي (لم تُسمَّه لأسباب أمنية): "عندما يتعلق الأمر بلبنان والشمال، هناك إجماع متزايد في إسرائيل على أن شيئًا ما يجب أن يتم". وأضاف أن الحكومة الإسرائيلية أضافت هدفًا جديدًا إلى قائمة أهداف الحرب: عودة الإسرائيليين إلى منازلهم بالقرب من الحدود مع لبنان.
الاحتمالات المتعلقة بالتفجير: ليثيوم أم شحنة متفجرات صغيرة
عمليًّا، ورغم عدم صدور إعلان رسمي عن المقاومة، يشرح ويفنّد الأسباب أو العوامل التي أدت إلى انفجار أجهزة الرسائل المشفرة "البيجر"، غير أن ثمة رواية قوية، تتداولها المواقع الغربية المتخصصة في الصناعات التكنولوجية، تفيد بأنه تم اعتراض شحنة "أجهزة البيجر" وتعبئتها بكمية تتراوح بين 1-3 غرامات من المواد شديدة الانفجار، وقد جرى تشغيلها بواسطة رسالة مخصصة.
اللافت أن هذه الرواية تتطابق تمامًا، مع ما نقلته صحيفة، الواشنطن بوست عن مصادر أمريكية (لم تفصح عنها) أن ما حدث هو أن العملاء الإسرائيليين تمكنوا من الوصول إلى أجهزة النداء قبل توزيعها، وقاموا بإدخال كميات صغيرة من المتفجرات القوية. وترجح المصادر المذكورة أن البرمجيات الخبيثة أُدخلت في أنظمة تشغيل الأجهزة لإنشاء آلية تفجير إلكترونية، بحيث عندما تتلقى الأجهزة نداءً من رقم معين أو إشارة أخرى، تنفجر المتفجرات.
بالمثل، ووفقًا لجمعية الوقاية من الحرائق الوطنية الأمريكية، تشير بعض المصادر الأمنية إلى أن بعض الخبراء يعتقدون أنه تم وضع قنابل مدمجة في أجهزة النداء. وفي هذا السياق، يتحدث كتاب "انهض واقتل أولاً"، الصادر عام 2018 من تأليف رونين بيرجمان حول تاريخ إسرائيل في عمليات القتل المستهدف، عن حالة تم فيها وضع "عبوة ناسفة زنة خمسين غرامًا مع صاعق يتم تشغيله عن بُعد" في هاتف أحد الأهداف التي اغتالها الصهاينة.
بالمقابل، أوضح بعض المحللين الأمريكيين لصحيفة "الواشنطن بوست" أنهم اشتبهوا في البداية أن البرمجيات الخبيثة الإسرائيلية قد تسببت في انفجار بطاريات الليثيوم داخل أجهزة النداء الآلي. لكن مقاطع الفيديو التي التقطت عدة انفجارات تجعل هذا الاحتمال غير مرجح. بطاريات الليثيوم تسخن كثيرًا قبل أن تنفجر، إلى درجة تجعل من المستحيل أن يحتفظ بها أحد في جيبه لفترة طويلة. ويبدو أن الانفجارات كانت تسبقها عادةً أدخنة ومن ثم نار، كما تظهر مقاطع الفيديو.
ما هي نوعية الأجهزة؟
بعيدًا عن ما ذكرته وكالة رويترز (وطبعًا خبر اليقين لدى العلاقات الإعلامية لحزب الله)، فإن أجهزة الراديو التي انفجرت يوم الثلاثاء كانت من طراز حديث اشتراه حزب الله مؤخرًا. تم تحديد النماذج على أنها نموذج AR-924 لأجهزة الاستدعاء ذات العلامة التجارية Gold Apollo "، وقد جرى تصنيعها بموجب ترخيص من شركة تايوان "أبولو" بواسطة شركة مقرها بودابست تُدعى "BAC":.
وتعقيبًا على ذلك، قال مؤسس الشركة هسو تشينغ كوانغ، عقب توافد الصحفيين على الشركة التي غصت مكاتبها بهم، إن الأجهزة صنعت بموجب ترخيص في أوروبا من قبل شركة تدعى "بي إيه سي"، ومقرها المجر.
بدوره، قال روبرت جراهام، خبير الأمن الغربي ـــ الذي أنشأ أدوات شعبية مفتوحة المصدر مثل Masscan:ــ "لا أعتقد أن هذا هو الاختراق. إن جعل البطاريات تفعل أي شيء أكثر من مجرد الاحتراق هو أمر صعب للغاية وغير قابل للتصديق". وأضاف: "الأمر الأكثر منطقية هو أن يقوم شخص ما برشوة المصنع لإدخال متفجرات".
بطلان نظرية "انفجار بطارية البيجر"
راجعت The Stack (مجلة مستقلة لتكنولوجيا الأعمال) الأدبيات الخاصة بدراسات الحالة للباحثين الأمنيين الذين حاولوا عن بُعد تفجير الهواتف الذكية/البطاريات ثم نشروا نتائجهم بفرح، فوجدت أن هذا المجال هو مجال ضيق جدًا؛ في الغالب، إن لم يكن بالكامل، مملوء بالأعمال النظرية أو القمامة المطلقة.
وفي السياق ذاته، نشر فريق من الباحثين من جامعة فلوريدا في وقت سابق من هذا العام، بحثًا حول كيفية جعل شواحن الطاقة اللاسلكية تبدأ في نقل الطاقة بشكل خطير عن بُعد، حيث قاموا بتفجير جهاز تحكم لسيارة (لم يسخن جهاز التحكم فحسب، بل انفجر وتفكك الجهاز في عرض انفجاري). لكن ما يعزز بطلان هذه النظرية هو أن جرحى المقاومة، لم يكونوا يشحنون أجهزة الإرسال الخاصة بهم على شواحن لاسلكية إثر وقوع المجزرة، وبالتالي فإن الربط بين الحادثين غير متين في أحسن الأحوال.
وماذا عن توقيت العملية ومسؤولية الكيان الغاصب؟
رغم تكتم الإسرائيليين الرسمي على العملية، إلا أن مسؤولًا إسرائيليًّا سابقًا على دراية بالعملية، أخبر مراسل صحيفة "أكسيوس" باراك رافيد أن القدس كانت تخطط لاستخدام أجهزة "البيجر" المفخخة التي في يد عناصر حزب الله وقادته "كنقطة افتتاحية مفاجئة في حرب شاملة لمحاولة إضعاف حزب الله."
ومع ذلك، ووفقًا للتقرير، "في الأيام الأخيرة، أصبح القادة الإسرائيليون قلقين من أن حزب الله قد يكتشف قضية أجهزة الاستدعاء. لذا، قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزراؤه البارزون ورؤساء الجيش الإسرائيلي ووكالات الاستخبارات استخدام النظام الآن بدلاً من المخاطرة بكشفه من قبل حزب الله، حسبما أفاد مسؤول أمريكي."
وليس بعيدًا عن ذلك، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز"، نقلاً عن مسؤولين أمريكيين وآخرين تم إطلاعهم على العملية، أن إسرائيل نفذت العملية "عن طريق إخفاء مواد متفجرة داخل دفعة جديدة من أجهزة "البيجر" المصنعة في تايوان والمستوردة إلى لبنان." وأكدت الصحيفة أن الأجهزة طُلبت من شركة Gold Apollo في تايوان وتم التلاعب بها قبل وصولها إلى لبنان.
وبحسب "نيويورك تايمز"، زرعت كمية صغيرة من المواد المتفجرة، تتراوح بين أونصة إلى اثنتين، بجانب البطارية في كل جهاز. وتم تضمين مفتاح يمكن تفعيله عن بُعد لتفجير المتفجرات.
وفي موقف لافت يدعم فرضية التلاعب، أوضحت وزارة التجارة التايوانية صباح اليوم الأربعاء ــ في محاولة للتنصل من المسؤولية ـــ إن أجهزة الاتصال التي انفجرت "تمت معالجتها" بعد تصديرها وأنه لا يوجد سجل للصادرات من تايوان إلى لبنان يتطابق مع الشحنة.
في المحصلة، ما قامت به إسرائيل ليس جهدًا فرديًّا أو ثنائيًّا (مع أمريكا)، بل يمثل سلسلة إمداد معقدة للغاية، لاشك أنها، اشترك فيها عدد كبير من أجهزة الاستخبارات العالمية في التحضير لها، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يتهرّب من المسؤولية بما في ذلك هنغاريا وتايوان التي داهمت الشرطة مكاتب الشركة فيها.
والأخطر، أن الهجوم يدشّن بداية حقبة جديدة وخطيرة للغاية في الحرب السيبرانية.
فمن المحتمل أن يتحول أي جهاز متصل بالإنترنت إلى سلاح. ومن الممكن، أيضًا التلاعب بدوائر الأجهزة "الذكية" بحيث تتعطل بشكل خطير.
الخلاصة في مستقبل ما يسمى "إنترنت الأشياء"، يمكن أن يكون الجهاز الضال، هو هاتفك أو ثلاجتك أو تلفازك.