د. علي ناصر- خاصّ الأفضل نيوز
نحو معايير أمن جديدة لسلاسل التوريد العالمية
نفذ "الكيان الصهيوني" عملية تفجير واسعة تناولت أجهزة اتصال مدنية من نوع "بيجرز" تستخدم على نطاق واسع من قبل مختلف القطاعات الصحية والإدارية في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، وهي أجهزة نداء لاسلكي تستعمل للتنبيه عبر إرسال أو تلقي الرسائل النصية، وذلك نهار الثلاثاء 17 أيلول/سبتمبر 2024.
يتم تصنيع هذه الأجهزة من قبل شركات عالمية ذات طبيعة مدنية، ولا تدخل الاعتبارات الأمنية والعسكرية في إجراءات تصنيعها من حيث المكونات التي تضمها والقطع التي تحتويها باستثناء ما يحافظ على استخدامها الآمن من قبل المواطنين العاديين.
تمّ تفخيخ تلك الأجهزة من المصدر أو عبر التلاعب بسلسلة توريدها من المصدر إلى المستهلك وفي الحالتين من المتوقع أن تحمل تداعيات على الثقة بالمنتوجات الغربية، والشركات المصنعة لكافة أجهزة الاتصال، وستشكل خطراً تجارياً إضافياً على سلاسل التوريد العالمية. والأكثر خطورة من ذلك أن الولايات المتحدة والغرب تعاملت مع المسألة بعدم مبالاة رغم الطبيعة الإرهابية للعمل الإسرائيلي.
اقتصرت التأثيرات المحلية على العامل النفسي ولم يكن لها أبعاد استراتيجية حيث كان فعلها تكتيكي عمل على إشغال المقاومة والدولة اللبنانية لبعض الوقت سرعان ما تم التحكم به، وشكل بطبيعته تجاوزاً للقوانين الدولية وسنعالج في السياق التأثيرات المحتملة على الصعيد الإقليمي والدولي.
إسرائيل تبتكر وسائل إرهابية جديدة والغرب صامت
يمكن تعريف الإرهاب بأنه "استخدام غير قانوني للقوة والعنف ضد السكان المدنيين من أجل تحقيق أهداف سياسية". ابتكرت إسرائيل فعلاً إرهابياً سيشكل حافزاً ودافعاً لمختلف الكيانات المصنفة إرهابية، أو تلك التي تبحث عن وسائل وأدوات من أجل تنفيذ أعمال إرهابية، وسيدفعها إلى استسهال استخدام الأدوات المصنفة مدنية، أو يستخدمها مدنيون، في مواجهة الحكومات خاصة في الدول الغربية.والحقيقة أن الأمر لن يقتصر على أجهزة الاتصال والتواصل بل يطال المؤسسات المدنية من كهرباء وماء وطاقة وغيرها من تلك التي ترتبط بالحياة اليومية للمواطنين. والأخطر من ذلك عدم إدانة هذا الفعل من قبل الولايات المتحدة وحلف "الناتو" والأوروبيين، وهو ما يفسر تغطية ومشاركة من قبل الولايات المتحدة كون إسرائيل لا تملك القدرة التكنولوجية والاستخبارية على القيام بهذا العمل المعقد. في المقابل اعتبرت روسيا أن "تفجير أجهزة الاتصال نوع جديد من الإرهاب" واعتبرته الصين بأنه "مستوى جديد من الإرهاب" وصنفتها الأمم المتحدة "بأنها اعتداءات صادمة ومروّعة وتنتهك القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان" وطالبت "بفتح تحقيق مستقل ومحاسبة من أمر ونفذ مثل هذا الاعتداء".
التأثير على أمن سلاسل التوريد
تعتمد سلاسل التوريد على مجموعة من الروابط تبدأ من المُنتَج نفسه مروراً بالمُنتِج حتى تصل إلى المستهلك، وترتبط السلسلة بعضها ببعض، وهي عملية معقدة، تتعلق بمجموعة من التحديات ترافق تدفق السلع والخدمات والبيانات بسلاسة، وفقاً للحاجة وتلبية للسوق العالمي. تتمثل هذه التحديات بالأمن الدولي الذي يُبطئ من وصول بعض المنتوجات والتوريدات إلى وجهتها النهائية، وهناك تحديات مرتبطة بالاضطرابات الاقتصادية للبلدان تتعلق بالتضخم والركود، إضافة إلى البيئة والمناخ وعرقلة بعض الطرق البحرية الأساسية مثل المضائق والقنوات البحرية مما يخلق مخاطر في الإمداد والتموين. لكن ظهر مؤخراً خطر محدق يتعلق بالتهديد السيبراني الذي قد يطاول سلاسل التوريد، وهو ما يتصل باختراق البيانات والأجهزة والبرامج من المصدر وهي أعمال يقوم بها قراصنة أفراد أو كيانات تصنف أفعالها بالأعمال الجرمية، عبر إدخال برمجية أو شيفرة إلى البرنامج أو الجهاز نفسه ويتم من خلالها التحكم بالجهاز أو الأجهزة مهما بلغ عددها، وهذا بالضبط ما قامت به "دولة إسرائيل" بالاشتراك مع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال ولوجها إلى المصدر أو الاعتداء على الطرق والممرات التي تسلكها سلاسل التوريد وتغيير طبيعتها وجعلها غير آمنة.
إضافة إلى ذلك، عرضت إسرائيل الشركات التي تعمل على تطوير أنظمة الحماية للأجهزة والبرمجيات إلى حالة من عدم الثقة والخوف الفعلي من المستهلكين والمتلقين النهائيين في سلسلة التوريد، التي تدعي الولايات المتحدة أنها تعمل على حمايتها، من عمليات تجسس وتعطيل لتلك الأجهزة.
إن العواقب التي ستلي الفعل الإسرائيلي ستدفع الحكومات والشركات الخاصة المستوردة إلى التشدد بالضمانات الأمنية وفحص الأجهزة ووضع معايير محددة من أجل الوثوق بتلك البرمجيات والأجهزة وهذا يشمل قطاع السيارات والطائرات وكافة الأجهزة الذكية وقطع الغيار لها. وسيؤدي ذلك بطبيعته إلى تباطؤ في التدفقات التجارية، وسينعكس كذلك على التكلفة صعوداً وعلى البنية الاقتصادية للعديد من الدول. فالعالم أصبح يحتاج إلى معايير أمان جديدة من أجل عدم تكرار الفعل الإسرائيلي من أي جهة مرة أخرى.
التأثير على الثقة التجارية للشركات الغربية
سارعت شركة "غولد أبولو" التايوانية إلى إصدار بيان تنفي فيه مسؤوليتها عن صناعة الشحنة وتوريدها إلى لبنان وأكدت "أن الشحنة صُنّعت في بلد أوروبي لديه رخصة إنتاج هذه السلعة" وأتى ذلك ضمن تحرك أشمل للسلطات التايوانية للتأكد من طبيعة الخرق الحاصل لما لذلك من تأثير على سمعة الشركات الخاصة التايوانية والضوابط الأمنية التي تعمل وفقها، وهو نوع من الحماية المسبقة التي تنفذها الدول من أجل الحفاظ على مصداقيتها التجارية الدولية وإرسال تطمينات إلى زبائنها المنتشرين في العالم.
وفي الإطار نفسه ونتيجة للسلوك الغربي والأمريكي إزاء الفعل الإسرائيلي بدأت التساؤلات حول العالم تصدر عن طبيعة الأجهزة والبيانات والبرمجيات التي توردها الشركات الغربية والأمريكية خصوصاً، وما الذي يمنع الولايات المتحدة أو الدول الغربية من التلاعب بالأجهزة والبيانات والبرامج وقطع الغيار التي تصدرها إلى الخارج وبرمجتها بما يسمح لها من تفجيرها أو استخدامها لغاية التجسس والمراقبة والقتل. قدم الفعل الإسرائيلي ضربة للتجارة الدولية وطرحت أسئلة تتعلق بأخلاقيات هذه الشركات وكيف لم يبادر أي مسؤول غربي إلى إدانة هذه العملية. ضربة إسرائيل الثقة بين الدول المصنعة والدول المستهلكة التي تبحث عن قيود تسمح لها بالحفاظ على مقتضيات أمنها القومي.
استنتاج
سيتأثر الاقتصاد العالمي بالعملية الإسرائيلية ومن المفترض أن تطرح معايير أخلاقية جديدة تفرض على الدول والشركات جملة من الإجراءات، والعقوبات في حال مخالفتها. من المفترض أن تفضل الدول والشركات الخاصة في معظم دول العالم النامية والآخذة بالتطور إلى البحث عن بدائل تتعلق بالصناعات الحديثة والبرمجيات الذكية بعيداً عن الشركات الأمريكية والغربية مما يزيد من الفرص الاقتصادية للصين. ستنعكس العملية الإسرائيلية على الشركات الإسرائيلية التي لها تعاملات خارجية خاصة فيما يتعلق ببعض البرمجيات والقطع الصناعية التي حاولت الولايات المتحدة أن تدفع إسرائيل للتخصص بها. سيدفع الفعل الإسرائيلي مجموعة "البريكس" وغيرها من المنظمات الإقليمية إلى فرض بروتوكولات خاصة بها تقيد من خلالها حركة التوريد الغربية. الاقتصاد والتجارة هو الذي حدد أهداف السياسة الأمريكية في العالم والتي أسست له الولايات المتحدة نظم ومؤسسات دولية للحفاظ على تفوقها، في المقابل سيدفع تفجير أجهزة "البيجرز" في الضاحية الجنوبية لبيروت إلى ضرب تلك المنظومة أو إلى منع الولايات المتحدة من التحكم بها منفردة.