د. علي ناصر ناصر-خاصّ الأفضل نيوز
تعمل "دولة إسرائيل" منذ بداية تكوينها على تنفيذ العقيدة الصهيونية في السيطرة والتحكم والاستيطان، وترتكز على بناء وتأسيس ثلاث حلقات تأتي ضمن بعضها البعض: الدائرة الأولى الكبرى تظهر عبر العامل الدولي الذي يؤمن لها الشرعية الدولية ويتحقق من خلال التماهي مع المفاهيم الغربية التي تفرض نسقها في مجال العلاقات الدولية، ويتأمن لها ذلك عبر التحالف مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وتسعى ضمن الدائرة الوسطى على تثبيت العامل الإقليمي عبر بناء قوة إقليمية تكون جاهزة وقادرة على التحكم بالإقليم سواء عبر التحالفات أو القوة العسكرية، واستطاعت أن تنفذ ذلك بشكل كبير، عبر اتفاقيات السلام مع بعض الدول العربية وتركيا وتحييدها من دائرة الصراع والمواجهة، وتعمل على استكمال ذلك مع الدول الأخرى، وكل ذلك بمساعدة ودعم من الولايات المتحدة، أو عبر استخدام القوة لإخضاع باقي الدول والكيانات التي تقف بوجه شرعيتها الإقليمية على رأسها إيران وسوريا والعراق واليمن والمقاومة الفلسطينية في غزة والمقاومة في لبنان، وتنفذ ذلك منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وتتعلق الدائرة الصغرى بالكيان الصهيوني مباشرة وهو عامل محلي يتعلق بقوة الدولة نفسها عبر تأمين مواردها الأساسية التي تؤمن لها الاستمرار والبقاء وفي مقدمة ذلك تأتي المياه التي التفت إليها مؤسسو الكيان منذ بدايات القرن العشرين وقدموا الطروحات الاستيطانية التوسعية لتأمين هذا المورد.
الحركة الصهيونية والمياه اللبنانية والحروب في جنوب لبنان
لم تُخفِ الحركة الصهيونية طموحاتها في المياه اللبنانية حيث أعلن "حاييم وايزمان أول رئيس "لدولة إسرائيل" وبشكل صريح عن النية في السيطرة على مياه نهر الليطاني حيث قال " إني أرى فلسطين كلها حتى الليطاني".
وبذلت الحركة الصهيونية جهداً هائلاً خلال مؤتمر السلام في فرساي عام 1919 بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، مستغلة انتصار الحلفاء وتقاسم النفوذ فيما بينهم، وقدمت طروحاتها من أجل السيطرة على منطقة جنوب الليطاني، وجبل الشيخ لما يحتويه من مياه. لكن بعد أن فشلوا في ذلك اتجهوا نحو خلق وقائع على الأرض تسمح لهم بتحقيق جزء من هذا الهدف، حيث تمكنت الحركة الصهيونية وبالاتفاق مع سلطات الانتداب الفرنسية والبريطانية من قضم وضم بعض القرى اللبنانية التي تعرف بوفرة المياه فيها وهي القرى السبع التي عمل الكيان الصهيوني على الفور إلى طرد أهلها، وإقامة مستوطنات إسرائيلية مكانها. وبعد أن فشلت إسرائيل عبر الدبلوماسية والاحتيال القانوني (مثل أن جوف نهر الليطاني يرتبط بجوف نهر الأردن وبالتالي لإسرائيل حصة من مياهه)، فلجأت إلى استخدام القوة للسيطرة على المياه اللبنانية جنوب نهر الليطاني، فأقدمت في حرب عام 1967 إلى ضم جزء من مزارع شبعا إليها التي تحتوي ثروة مائية هائلة، وقامت عام 1978 باجتياح لبنان في عملية أطلق عليها عملية الليطاني وكان هدف إسرائيل منها إبعاد المقاومة الفلسطينية واللبنانية إلى ما وراء الليطاني في عملية تتكرر أهدافها الآن في الحرب التي تنفذها ضد حزب الله في جنوب الليطاني، وتطالب بإبعاده إلى ما وراء النهر.
في عام 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان ثم انسحبت منه عام 1985 لتبقى تحتل منطقة جنوب لبنان حيث أقامت منطقة حزام أمني يضم منطقة جنوب الليطاني وتعرضت لمقاومة شرسة أجبرتها على الانسحاب منه عام 2000، من غير أن تسقط من حسابتها في السيطرة على المنطقة، وكررت طرح الأمر نفسه في عام 2006، وتعيد اليوم الطرح نفسه والطلب من المواطنين الذين يقطنون جنوب النهر بمغادرة مساكنهم. وقامت بهجوم عسكري منذ بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2024 للسيطرة على جنوب الليطاني وتصدت لها المقاومة اللبنانية على طول الحدود اللبنانية ومنعتها من التقدم في العمق اللبناني من أجل السيطرة على جنوب الليطاني.
المساحة الجغرافية لجنوب الليطاني
تبلغ مساحة جنوب الليطاني حوالي 900 كيلو متر مربع، ويضم المناطق بين الخط الأزرق وهو الخط الذي يفصل حدود لبنان عن فلسطين المحتلة، ووضعته الأمم المتحدة بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000، ويمتد من رأس الناقورة غربا حتى جبل الشيخ شرقاً، ويتحفظ عليه لبنان. ومنطقة جنوب الليطاني هي قطاع جغرافي يمتد بين مجرى نهر الليطاني شمالاً والخط الأزرق جنوباً، أي من مصب النهر في منطقة القاسمية غرباً صعوداً في موازاة مجرى النهر حتى منطقة الخردلي ثم يتبع مجرى النهر ليصل منطقة "برغز" على أطراف البقاع الغربي، ثم يتجه شرقاً وصولاً حتى شمال حاصبيا، وتشكل هذه المنطقة مركز عمل قوات الأمم المتحدة العاملة في لبنان. وتبلغ المسافة بين الخط الأزرق وشمال الليطاني في أقصى عمق لها 30 كيلو متراً في القطاع الأوسط وأقل عمق يبلغ حوالي 6 كيلو متر في القطاع الغربي بينما يبلغ طول الشاطئ اللبناني من مصب النهر في "القاسمية" شمالاً حتى الحدود مع فلسطين المحتلة جنوباً 34 كيلومتراً.
النقص المائي الإسرائيلي والسيطرة على جنوب الليطاني
تقود المعطيات الدولية إلى أن المياه ستكون السبب الرئيسي في الصراع القادم ضمن منطقة الشرق الأوسط، وفرض السيطرة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية المحتلة منذ عام 1967 تأتي ضمن اعتبارات الأمن المائي الإسرائيلي وينطبق الأمر كذلك على مزارع شبعا المحتلة. وتشكل السيطرة على جنوب الليطاني وبالتالي السيطرة على " نهر الوزاني" أحد روافد "نهر الحاصباني" الذي يشكل بدوره أحد روافد نهر الأردن جزءًا من أهداف الحرب القائمة حالياً والتي تشنها إسرائيل من أجل الوصول إلى حدود النهر الشمالية والتحكم بتدفقاته المائية. وكانت إسرائيل تؤمن أكثر من ربع حاجاتها المائية قبل انسحابها من لبنان عام 2000 من نهر الليطاني والوزاني مع العلم أن الفجوة المائية الإسرائيلية آخذة في التزايد والتي من المتوقع حصول نقص فيها بمقدار 50 مليون متر مكعب عام 2030، وسيتزايد النقص ليبلغ 670 مليون متر مكعب عام 2050. وتشكل هذه الأرقام هاجساً للأمن القومي الإسرائيلي، لذلك تعمل إسرائيل على خلق أمن مائي مستدام عبر السيطرة على منطقة جنوب الليطاني ومن ثم السيطرة على موارد المياه في الضفة الغربية بعد ضمها بشكل نهائي.
استنتاج
يشكل جنوب "الليطاني" العقدة التي تسيطر على العقل الإسرائيلي منذ نشأة الحركة الصهيونية حتى استلام اليمين المتطرف بقيادة رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو الحكم والعمل بشكل متسارع على تحقيق أهداف الحركة الصهيونية التاريخية، ونتنياهو يقدم نفسه بصفته المؤسس الثاني لدولة إسرائيل على خطى حاييم وايزمان. وتغيير الشرق الأوسط بشكل نهائي يفترض السيطرة على جنوب الليطاني وتحقيق حلم الحركة الصهيونية وإقامة أمن مائي مستدام وتصبح الحدود المائية لدولة إسرائيل متكاملة بعد ضم الضفة الغربية والجولان بالإضافة إلى بحيرة طبريا.
تشكل المعركة الجارية حالياً في جنوب لبنان كل الحلم والفكر الصهيوني والطريقة التي ستنتهي فيها ستحدد معالم المنطقة القادمة، إما أن تثبّت إسرائيل حدودها المائية كما وضعتها الحركة الصهيونية، والتي ستخلق لها مناعة وحصانة وتجعلها قادرة على الهيمنة على الشرق الأوسط، أو تدفع المقاومة اللبنانية بالمشروع الصهيوني إلى بداية النهاية.