نبيه البرجي - خاصّ الأفضل نيوز
أي حرب أخرى بعد هذه الحرب ؟ لاحظنا ماذا تفعل القاذفات بنا , وحتى بقبور آبائنا . حين قلت لمراسل أوروبي "إنها صورة عن هيروشيما" , أجابني "... بل إنها صورة عن جهنم" !
نعود إلى دراسة لمعهد ستوكهولم منذ نحو ثلاث سنوات "كلما تطورت التكنولوجيا العسكرية كلما تراجعت احتمالات الحروب" . لكنها إسرائيل , التي لبقائها , وللحيلولة دون التخلخل ـ وحتى الانفجار ـ الداخلي في ذلك الموزاييك الثقافي , وحتى الطبقي , تريد لكل بلدان المحيط أن تتحول إلى حطام (حطام سياسي أو حطام عسكري) .
المنظّر الأميركي وليم كريستول كان واضحاً في الإضاءة على السيناريوات التي لم تتوقف , يوماً , على امتداد العقود المنصرمة . يفترض بالدول , وبالمجتمعات , العربية , البقاء تحت خط الزمن . ولكن ألم يظهر الباحث الفرنسي- اليهودي ماريك هالتر ـ الذي أثبت بيولوجيًّا ألاَّ صلة بين الإسرائيليين واليهود القدامى ـ أن الزمن , كمفهوم تاريخي وفلسفي , ولد في هذه المنطقة ؟
مثلما تشير الأصابع ـ أصابع الدم ـ إلى إسرائيل , تشير إلى الغرب . آخر المشاهد كان في مدينة أمستردام . المشجعون الإسرائيليون لفريق كرة القدم هم من بدأوا بإطلاق الهتافات والشعارات حول بطولة بلادهم في الملعب كما في الميدان , ما استفز عرب المدينة , ومن المشرق العربي إلى مغربه. بالرغم من ذلك استنفرت القنوات الأوروبية على ذلك النحو المروع . قناة فرنسية بلغت حد استعادة "ليلة الكريستال" في ألمانيا , وحيث كانت الليلة الرهيبة ليهود برلين 10/9) تشرين الثاتي 1938) .
لاحظوا مدى العبث الأخلاقي بالتاريخ حين يصفوننا بالبرابرة , لكأننا نحن من صنع الهولوكوست (المحرقة) ولكأننا نحن من أشعل الحربين العالميتين اللتين اختزلتا قرونا من الدم . لا مجال البتة لغرب ديكارت , أو لغرب كانط . أنه غرب يهوذا ...
للتو استفاقت التهمة باللاسامية . ذاك المصطلح البدائي والمبرمج لاستخدامه سياسياً , وعاطفياً , وهو مصطلح أوروبي للهروب من لعنة الدم التي تلاحق الحضارة الغربية وحيث السباق الجنوني لإنتاج الأسلحة التي لا يمكن أن تخطر في بال الشيطان .
(تحية إلى النائب الفرنسية ماري مسمور Marie Mesmeur التي واجهت الحملة على العرب بالقول "هؤلاء لم يطاردوا ـ في شوارع أمستردام ـ لأنهم يهود , وإنما لكونهم عنصريين ويدعمون الإبادة) .
ولكن مهما بلغ الجبروت الإسرائيلي , وحيث هيستيريا القتل في حدودها القصوى , ثمة من يستعملون عقولهم في الدولة العبرية , بعيدأ عن اللوثة التوراتية , تحدثوا عن تداعيات انتقال الحرب إلى الداخل , إن بالصواريخ أو بالمسيّرات , ما أحدث ما دعوه "الزلزال الوجودي" بين جاليات ما زالت الجهود ـ المستحيلة ـ تبذل لصهرها في بوتقة ثقافية , وايديولوجية , وحتى سيكولوجية , واحدة .
رئيس الحكومة السابق ايهود باراك دعا إلى وقف "استراتيجية الثيران الهائجة" , الثيران المجنونة . ذاك النوع من الشبق إلى الجثث لم يحصل إلا في زمن أدولف هتلر . ولكن إلى أين انتهى الفوهرر , وإلى أين انتهت دولة هيغل , وشوبنهاور , ونيتشه , وحتى فاغنر وبيتهوفن ؟
المحللون الأوروبيون هم من يقولون الآن باستحالة التعايش بين دونالد ترامب الذي يقول بـ"أميركا العظمى" وفي رأسه "الأميركي الأعظم" وبنيامين نتنياهو الذي يقول بـ"إسرائيل العظمى" , وهو يقصد "الإسرائيلي الأعظم".
شخصيتان في ذروة النرجسية , وحتى في ذروة البارانويا . وإذ يرى الأول , وبخلفية استراتيجية , أن كمية الجثث تكفي لمعاودة دومينو أو ديناميكية التطبيع , يرى الثاني , وبخلفية ايديولوجية , إزالة أي أثر لأي قوة يمكن أن تهدد وجود , أو أمن , إسرائيل .
من اللافت هنا أن معلقين إسرائيليين يقولون إن "المهمة الأميركية لنتنياهو انتهت" . المشكلة أنه "خلط , على نحو عشوائي , بين المصلحة الأميركية ومصلحته الشخصية , ولم يعد يكترث بلاءات البيت الأبيض".
في واشنطن , بالتنسيق بين مستشاري بايدن ومستشاري ترامب "إقفال أبواب النار وفتح الأبواب الديبلوماسية" . استاذ الاقتصاد اران ياشيف كتب في "هاآرتس" أن من مصلحة الرئيس المنتخب "المتقلب والذي لا إمكانية للتنبؤ بأفعاله , أو بردود أفعاله , إزاحة نتنياهو لأن "صيانته" تتطلب تكلفة باهظة،
صيانته بعدما تمكن المقاومون في لبنان , وفي غزة , من زعزعة عظامه . أي إسرائيل من دون أميركا ؟ أسئلة في إسرائيل على مواقع التواصل "ندرك ما هي نهاية نتنياهو , ولكن ماذا عن نهايتنا ؟" , و "هل من مصلحتنا إقامة ذلك السور من الجماجم حولنا ؟"
لا حرب بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها . لكنها لعبة القوى , لعبة التاريخ , ولعبة الأزمنة . هذا هو الشرق الأوسط , في كل الأحوال , منطقة على خط الزلازل ..