ملاك درويش - خاصّ الأفضل نيوز
في الحروب، كما في السياسة، لا تُقاس القوة العسكرية بالأسلحة فقط، بل تُقاس أيضًا بالقدرة على تشكيل الرأي العام من خلال السيطرة على اللغة.
المصطلحات هي أدوات أساسية في نقل الأيديولوجيات، وصياغة الحقائق، وتأطير الأحداث وفقاً لاحتياجات الأطراف المختلفة. وفي السياق الإعلامي، قد تُصبح المصطلحات سلاحًا قويًا في المعركة النفسية، حيث لا يقتصر الأمر على مجرد نقل الأخبار، بل يشمل أيضًا تحديد كيفية فهم الجمهور لما يحدث.
من هنا، تشكل المصطلحات مفاتيح لفهم الأزمات والصراعات، وهي تعكس وجهات نظر مختلفة قد تتناقض أو تتباين بشكل جذري. وقد تصبح بعض الكلمات بمثابة رموز سياسية تتجاوز معناها المباشر. على سبيل المثال، في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يُستخدم مصطلح "الاحتلال" للدلالة على سياسات إسرائيل تجاه الأراضي الفلسطينية، بينما يتم استخدام مصطلحات مثل "الدفاع عن النفس" في وسائل الإعلام الإسرائيلية لتبرير الهجمات على الأراضي الفلسطينية.
إنّ المصطلحات في الإعلام ليست مجرد أدوات تعبيرية، بل هي أدوات ذات قدرة على تشكيل الوعي الجمعي. كيف يتم تقديم الصراع؟ هل هو "مقاومة" أم "إرهاب"؟ هل الهجوم هو "دفاع مشروع" أم "اعتداء همجي"؟ هذه الأسئلة لا يمكن فصلها عن أيديولوجيا وسائل الإعلام والمواقف السياسية لأصحابها.
أحد أبرز الأمثلة على حرب المصطلحات في الإعلام اللبناني والعربي والدولي هو في الحرب القائمة اليوم، حيث تحول الإعلام إلى ساحة حرب جديدة تتنافس فيها الروايات والصور المصممة لتشكيل صورة ما يجري في عيون المشاهدين.
وكان الإعلام اللبناني في طليعة هذا الصراع، حيث لعبت القنوات اللبنانية دورًا محوريًا في نقل الأحداث والآراء المتضاربة.
القنوات اللبنانية التي كانت متباينة في توجهاتها السياسية والإيديولوجية، قدمت تغطية متناقضة لهذا العدوان، مما جعل "حرب المصطلحات" تظهر بشكل واضح. فعلى سبيل المثال، قناة المنار التابعة لحزب الله، استخدمت مصطلحات مثل "المقاومة" و"العدوان الإسرائيلي" للتأكيد على شرعية الدفاع عن لبنان، ووصفت الهجوم الإسرائيلي على المدنيين بأنه "جريمة حرب". هذه المصطلحات كانت تسعى إلى تأكيد حق لبنان في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته تعزيز الشرعية السياسية للمقاومة في لبنان.
من ناحية أخرى، كانت مؤسسات لبنانية أخرى، تتبنى مصطلحات أقل حدة، لكنها لم تبتعد عن تقديم مواقف تؤكد على معاناة المدنيين اللبنانيين في ظل الهجمات الإسرائيلية. وفي المقابل، سعت قنوات أخرى، إلى تقديم الأحداث من زاوية تتماشى مع ايديولوجية أميركية، مشيرة إلى أن الحرب هي نتيجة حرب الإسناد لغزة، وتستخدم مصطلحات منمطة مثل: إيران، اعتداء لبناني، سلاح حزب الله..
وفي الإعلام العربي والعالمي، استخدمت القنوات الغربية مصطلحات مثل "العملية العسكرية" أو "الضربة الوقائية" لتوصيف الهجوم الإسرائيلي، مع التركيز على الخسائر البشرية والمادية التي ألحقها العدوان بالبنية التحتية اللبنانية.
هذه المصطلحات بدت أقل تأثرًا بالانقسامات الداخلية في لبنان، لكنها بالتأكيد كانت تعكس المواقف السياسية للقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وأوروبا.
لقد أظهرت الحرب في لبنان مدى تأثير الإعلام على تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي. فقد كان للمصطلحات المستخدمة في الإعلام اللبناني دور كبير في تعزيز أو تخفيف الهوة بين مختلف الطوائف والمجموعات السياسية في لبنان. وفي حين كان البعض يرى في المقاومة بطولة وشجاعة، كان آخرون يعتبرونها تهديدًا لاستقرار البلاد، بل ويعتبرونها دافعًا لإثارة الأزمات الإقليمية.
كما أن المصطلحات كانت أداة للمزايدة السياسية بين القوى المتنافسة داخل لبنان. ففي الوقت الذي كانت فيه بعض القنوات تبث رسائل تأكيد على الوحدة الوطنية، كانت أخرى تسعى إلى إظهار حزب الله كمسبب رئيسي للمشاكل، بينما كانت هناك أصوات تدافع عن مواقف الحزب وتعتبره رمزًا للكرامة الوطنية.
تظهر حرب المصطلحات في الإعلام اللبناني، كما في باقي مناطق العالم، كيف يمكن للغة أن تكون أداة لصياغة الحروب بشكل غير مباشر. في سياقات مثل العدوان الإسرائيلي على لبنان، يتجاوز الأمر مجرد نقل الأخبار، يصبح جزءًا من تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي للمتلقين.
إن فهم هذا الدور الذي تلعبه المصطلحات في الإعلام يفتح المجال لتحليل أعمق لكيفية تأثير الصراع الإعلامي في توجيه الرأي العام، بل وكيف يمكن استخدامه لصالح أو ضد الأطراف المختلفة في ساحة المعركة السياسية.