د.رائد المصري -خاصّ الأفضل نيوز
عادت سوريا إلى المواجهات الأمنية بعد "الفوعة" التي أطلقتها الفصائل المسلحة الإرهابية ضد الجيش العربي السوري و أماكن تواجده في إدلب وحلب وصولا إلى حماه، لتمتلئ بأحداث ربّما تكون كارثية على الشعب السوري مرة أخرى، خصوصاً بعد سريان الهدنة في لبنان، عقب حرب متوحشة شنَّها الكيان الصهويني على هذا البلد، فجرى بالتزامن مع إعلان اتفاق وقف النار في لبنان، استهداف إسرائيل للمرّة الثالثة المعابر بين البلدين من جهة بلدة القصير السورية، فتدمّرت الجسور الرابطة بين البلدين، ووفق ما قاله المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، بأن الغارة استهدفت طرقاً استخدمها حزب الله لنقل وسائل قتالية من سوريا إلى لبنان، وبدعم من السلطات السورية- بحسب تعبيره- وهو ما أثار الشبهات حول إعلان توقيت هجوم هذه الفصائل الإرهابية المستندة على الزخم الصهيوني, كذلك وبعد شرحه أسباب موافقته على اتفاق وقف النار في لبنان في 26 تشرين الثاني، أشار بنيامين نتنياهو، إلى نيّته التركيز على ما سمَّاه التهديد الإيراني، قائلاً: بأن الرئيس الأسد يلعب بالنار.. وهذا تحذير يشير إلى أنّ تل أبيب ستتشدّد أكثر تجاه دمشق مستفيدة من لحظة الفراغ الدولي والإقليمي بتوسيع دائرة نفوذها أكثر ، وهو ما يفسِّر هذه الاندفاعة العسكرية الكبيرة، التي حدَت بالمجموعات المسلحة الإرهابية في شمال سوريا، للتوسع نحو حلب في توقيت إقليمي ودولي يكاد يكون مريبا.
إلاَّ أنّ الفوضى التي غرقت بها بلاد الشام على مدى السنوات الأخيرة، بسبب تعدّد الاحتلالات والتدخلات التركية والأميركية، تجعل من الصعب فهم بعض المواجهات العسكرية فيها، حيث تتضارب المصالح بين دول تتقاسم الميدان السوري، وبناء عليه قام مقاتلو هيئة تحرير الشام وفصائل ما يسمَّى الجيش الوطني الإرهابيون باستهداف الجيش العربي السوري شمال غرب حلب، ما أدى إلى مقتل أكثر من 250 مسلّحاً أغلبهم من المسلحين الإرهابيين وإلى احتلال ثكنات ومقرّات ومطارات عسكرية سورية كان الجيش العربي السوري قد أخلاها مسبقا، وقد توضحت التبريرات المزيفة التي أطلقتها التنظيمات الإرهابية، بأن هذا الهجوم هو للرد على قصف القوات السورية لإدلب بعنف منذ بداية الشهر الجاري، لكن اللافت هو أن هذا الهجوم، حصل بعد عدة أيام على انعقاد اجتماع صيغة أستانا بين روسيا وإيران وتركيا، والذي خرج ببيان حول أهميّة التعاون والتنسيق لحفظ مناطق خفض التصعيد.
لكن وبحسب مصادر عسكرية وسياسية خاصة تمَّ كشفها وحصل عليها "الأفضل نيوز"، بأن الأسباب الكثيرة والموضوعية التي تدفع القوى والفصائل المسلَّحة إلى شن الهجوم المباغت على محافظة حلب، سببه آلية تطبيق ومندرجات اتفاق منطقة خفض التصعيد لعام 2017 ، القاضية بوقف الأعمال القتالية برعاية روسيا وتركيا وإيران، إلاَّ أن هذا الاتفاق صار يعزِّز نمطاً جديداً من الصراع، يقوم على استراتيجية توسع الدولة السورية وقوات جيشها النظامية و العسكرية، للمناطق المشمولة في الاتفاق. حيث كانت الفصائل العسكرية الإرهابية المتمركزة شمال سوريا وعلى الحدود التركية، عاجزةً عن القيام بردّ فعل عسكري قوي ضد دمشق في حلب لاعتبارات مُختلفة، منها حرص تركيا في الحفاظ على التهدئة في منطقة خفض التصعيد، لتجنّب انهيار الوضع، بغية تركيز اهتمامها على صراعها مع الوحدات الكردية.
فإعادة حلب إلى مركز الصراع اليوم، يظهر البُعد الإقليمي كعامل حاسم في تغيير حسابات الشمال السوري، إذ يواجه الوجود العسكري للدولة السورية هناك في سورية مزيداً من الضغط الإسرائيلي، كما أن الصراع بين إسرائيل وحزب الله والدفع به إلى حرب واسعة، قد ترك فراغاً، أرادت تركيا والفصائل العسكرية الإرهابية المسلحة مَلأه وإعادة رسم النفوذ السياسي في هذا البلد، يضاف إليه، أن أنقرة بدت مؤخراً قلقة بشدة من موجة هجرة جديدة تقطع حدودها، وبدت كذلك مُحبطة من عدم استجابة دمشق لتحرّكها، من أجل إعادة تطبيع العلاقات، فلا تبدو المؤشرات واضحة بأن تحرّك المعارضة العسكرية المسلحة الإرهابية صوب حلب يحظى بمباركة تركية، لأن الفصيل الرئيسي الذي يُنفذ العملية هو هيئة تحرير الشام، لكن تبدو أنقرة مُستفيدةً من الهجوم على عدة مستويات، منها تقويض قدرة دمشق على تهديد منطقة خفض التصعيد الرابعة، ومعها تعزيز موقفها في الضغط عليها وعلى روسيا، للدفع باتجاه مشروع تطبيع العلاقات التركية -السورية التي لا يزال الرئيس الأسد ممانعا لهذا التطبيع، وأخيراً إضعاف التأثير لحلف المقاومة في معادلة الشمال، لأنه يُشكل تهديداً لنفوذ تركيا في معادلة الشمال، فإن طهران لعبت دوراً ممانعا لمشروع سيطرة أنقرة في شمال سوريا.
أخيراً، إن سعي الفصائل العسكرية الإرهابية المسلحة شمال سوريا واضح، من أجل الاستفادة من دور حرب 7 أكتوبر، وانعكاساتها الإقليمية، لناحية الواقع الإسرائيلي الجديد في سوريا وموقع حزب الله، وما واجهه في حربه مع تل ابيب، معطوفاً على التصريحات لبنيامين نتنياهو الأخيرة المهددة للرئيس السوري، فهي تريد أن تُقدم نفسها اليوم للعالم، طرفاً قادراً على الانخراط بفعالية في تقويض الحضور الإيراني في سوريا، وقد يُحفز هذا للولايات المتحدة، التفكير مجدداً في تسليح الفصائل الإرهابية المسلحة من جديد، ومرة جديدة أثبتت الرهانات الإقليمية والدولية على الاستنتاج، بأن هجوم حلب قد يكون بداية لنهج إقليمي ودولي جديد في الصراع السوري عموماً، بالرغم من أن هجوم الفصائل المسلحة الإرهابية على حلب، لن يؤدّي في المستقبل المنظور إلى إعادة تشكيل الصراع السوري والديناميكيات الخارجية الفاعلة فيه على نطاق واسع، لكنه سيكون بداية لمسارات جديدة في الصراع، أكثر قدرةً على إخراجه من حالة الجمود التي يُعانيها منذ سنوات، وربما يُشكل هذا الهجوم اختباراً صعباً لمدى قدرة أنقرة وموسكو، على مواصلة التعاون في سوريا وتنسيق سياستهما بشكلٍ يجعلهما قادرتين على مواصلة إنتاج التسويات، والحدّ من مخاطر إعادة تحويل سورية إلى مصدر ضغط قوي على العلاقات التركية- الروسية.