الياس المر- خاصّ الأفضل نيوز
تعيش أنقرة حالة مركبة من التعقيدات الداخلية والخارجية، تنعكس على شبكة مركبّة ومعقدة من التحالفات والخصومات الاستراتيجية في آنٍ معاً؛ فعندما تبدو مدافعاً شرساً عن المقاومة الفلسطينية في غزّة، ولحماس تحديداً من خلال التصريحات العالية السقف والنبرة على مختلف المنابر الدولية والأممية، تحافظ في الوقت نفسه على علاقات متينة وتحالف استراتيجي ذي أبعاد سياسية واقتصادية مع الكيان الإسرائيلي لم ينقطع طيلة فترة الحرب على غزّة بل ازداد خلالها التبادل التجاري بين الدولتين حتى وصل إلى ٧،٥ مليار دولار في العام الحالي لتبقى إسرائيل أهم وأكبر شريك تجاري لتركيا في منطقة الشرق الأوسط.
كذلك في محاولتها التقارب مع الدول العربية مثل السعودية، تحافظ تركيا على المسار الداعم للخلافات العربية الخليجية تحديداً من خلال بناء تحالف استراتيجي مع قطر، ودعم حركات الإسلام السياسي المتطرف وتحديداً الإخوان المسلمين، الذي يعتبر اسفزازاً وخطراً وتهديداً مباشراً للأنظمة العربية في مقدمها السعودية ومصر حيث استضافت منذ عام ٢٠١٣ وبعد سقوط مرسي في مصر، نحو ١٥٠٠ شخصية من التنظيم جلهم من الفارين من مصر، وعملت منذ ذلك الوقت على عقد عشرات المؤتمرات التنظيمية والترويجية لسياسة الحركة المحظورة في أغلب الدول العربية، وأصبحت أنقرة مركزا لوسائل إعلامية ومكاتب سياسية للحركة التي عملت تركيا على إظهارها على أنها حركة إيديولوجية وليست إرهابية.
أستانة ومهارة السياسة التركية
استفادت تركيا من مشاركتها في منصة أستانة التي نشأت إبان الحرب في سوريا، كمنصة حوارية تفاعلية للجهات الفاعلة على الساحة السورية، استغلت هذه المنصة لتحقيق أربعة أهداف استراتيجية تتمثل على الشكل التالي:
أولاً، تأمين مصالحها ضد الأكراد،
حيث تمثلت أولوية أنقرة في تقويض الحضور والنفوذ الكري على الحدود الشمالية لسوريا والمدعوم من أميركا، واستطاعت تركيا عبر أستانة، من الحصول على الغطاء الديبلوماسي لعملياتها العسكرية ضد الأكراد خصوصاً في العميات الكبرى منها، درع الفرات ٢٠١٦، غصن الزيتون ٢٠١٨ ونبع السلام ٢٠١٩
فحصلت بسبب أستانة دون معارضة جديّة من قبل روسيا ونحجت في تحجيم وتقويض الطموحات والقدرات الكردية بالرغم من الدعم الأميركي.
ثانياً، إنشاء مناطق نفوذ تركية، والحفاظ على دور فاعلٍ في الملف السوري،
ضمن إطار أستانا، وافقت تركيا على إنشاء مناطق خفض التصعيد، خاصة في إدلب، مَنحها هذا الاتفاق فرصة لإقامة مواقع عسكرية وقواعد مراقبة في إدلب وشمال حماة وحلب.
هذه التفاهمات وتحت رعاية أستانة التي منعت من القضاء النهائي على الجماعات المسلحة في لحظة انتصار الجيش السوري عليها، بدلاً من إبقائها ورقة استثمار في إدلب، سمحت لتركيا بتوسيع نفوذها الجغرافي والعسكري وتأمين حدودها الجنوبية من أي تهديدات محتملة تحت عنوان مراقبة خفض التصعيد ليتبيّن لاحقاً أنها لم تكن إلاّ مراكز لدعم وإمداد وتدريب الجماعات المسلحة في تلك المناطق.
ثالثاً، الموازنة الاستراتيجية في العلاقة بين روسيا وأميركا:
استطاعت تركيا من خلال شراكتها مع روسيا وإيران في منصة أستانة من موازنة علاقتها بالولايات المتحدة، الداعمة بشكل أساسي للحركات والسياسات الكردية في الشمال السوري، هذا التكتيك السياسي سمح لها، الضغط على واشنطن من جهة، ومنع المواجهة المباشرة مع موسكو من جهة ثانية، وضمن عدم التحالف والدعم الروسي للأكراد من جهة ثالثة.
رابعاً، تعزيز مكانتها الإقليمية:
استطاعت تركيا من خلال الشراكة الاستراتيجية مع موسكو تحت مظلة أستانة، أن تعزز مكانتها وقوتها على الساحة الإقليمية من خلال المرونة وحرية الحركة، حيث سجلت أفضلية في النقاط على باقي دول الجليج التي سعت وحققت تقدماً في بناء علاقات متوازنة مع موسكو لم تصل إلى مستوى العلاقة التركية الروسية، حيث استطاعت تركيا من خلال هذه العلاقة بفضل شراكة أستانة، من شراء منظومة الدفاع أس٤٠٠ التي سمحت لها بالجلوس على الطاولة الأميركية كشريك مشاكس وعضو مشاغب في الناتو، هذا عسكرياً، أما على المستوى الاقتصادي فلم تكن الإنجازات أقل أهمية، خصوصاً عبر الشراكة في مشاريع الطاقة وكان أبرزها وأكبرها المشروع الطاقوي العملاق turk stream السيل التركي الذي تم تدشينه بحضور الرئيسين الروسي والتركي في يناير ٢٠٢٠ والذي يبلغ ٩٣٠ كلم والعادف لتزويد دول جنوب وجنوب شرق أوروبا بالغاز الروسي عبر تركيا والهدف الاستراتيجي منه الاستغناء عن المرور بأوكرانيا وجعل تركيا مركزاً إقليميا للطاقة في المنطقة ودعم وتعزيز اقتصادها لتقليل الاعتماد على الغرب.
كل هذا كان بالشراكة والتعاون من خلال أستانة، لكن اليوم، ومع "الخديعة" الكبرى التي لم تظهر ملامحها وتفاصيلها بعد بالانقلاب المُسلح على مسار أستانة وهجمة الجماعات المسلحة المدعومة من تركيا واستيلائها على مناطق واسعة من الجغرافيا السورية وصولا إلى العاصمة، فالسؤال هنا ما هو مصير أستانة ؟ وبالتالي كل الشراكات السياسية والاقتصادية الناتجة عنه؟ وهل ستشهد الأيام المقبلة تفاهمات جديدة على أساس الخارطة الجديدة أم مواجهة مفتوحة نتيجة الانقلاب وبالتالي تهديد لكل المصالح السياسية والاقتصادية الناجمة عن الشراكة المعقدة والمركبة بين دول الحلفاء والخصوم في آنٍ معاً؟.
أمام كل هذه التداخلات والتعقيدات هل تتحمل تركيا فض الشراكة مع روسيا وإيران في المنطقة؟ وهل يتحمل واقعها المترنح داخلياً وخارجياً تداعيات هذا الانقلاب؟، أم أنها ستصحو من نشوة التقدم السريع للفصائل المسلحة وتهرع لإبرام صفقة جديدة تحمي مصالحها المهددة اليوم ؟ بدأ من العلاقة غير المضمونة مع الإدارة الأمركية الجديدة واحتمال رد الروس بدعم الأكراد ووقف التعاون الاقتصادي وتهديد الاقتصاد التركي المتهاوي، وسحب ورقة التوازن القائم مع الغرب الذي تسوده علاقات تركية متوترة مع كل من أميركا وأوروبا بفعل أزمة الانضمام المستحيل إلى الاتحاد، والأزمة مع اليونان وقبرص حول الطاقة في البحر المتوسط.