طارق ترشيشي - خاصّ الأفضل نيوز
هو زلزال آخر بكل معنى الكلمة ضرب محور المقاومة بسقوط النظام السوري بعد الزلزال الكبير الذي أصابه باغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وأركان حرب المقاومة، ما أدى إلى كسر الحلقة السورية في هذا المحور الممتد من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط ما أدى إلى انقطاع خط إمداد المقاومة في لبنان عبر الشريان السوري.
الذين يُبسِّطون قضية سقوط النظام السوري، يقولون إنه سقط لأن رئيسه بشار الأسد رفض وقف مرور وتمرير السلاح والذخائر إلى المقاومة في لبنان، وفك تحالفه مع إيران والخروج من محورها، والانفتاح على المعارضة السورية وإجراء إصلاحات سياسية في النظام، وإنه تلقى هذه العروض المباشرة من دول عربية ومن الولايات المتحدة الأميركية ودول غربية أخرى بطريقة مداورة..لكن واقع الأمر بعيد جدا عن هذا التبسيط، ويرتبط عميقا بالمخططات الأميركية والغربية الكبرى المرسومة للمنطقة والتي تشكل إسرائيل الأداة لتنفيذها، والهادفة إلى إقامة "الشرق الأوسط الجديد" الذي يُنظَّر له ويُحضَّر منذ عشرات السنين، وتحديدا منذ اتفاق "كمب ديفيد" بين مصر وإسرائيل في أواخر سبعينات القرن العشرين، وقد تسارع التنظير والعمل له منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ،1982 وأبرز المنظرين كان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شمعون بيريز الذي ألَّف كتاباً سماه "الشرق الأوسط الجديد".
وتكرر المشهد في حرب تموز 2006 بين إسرائيل وحزب الله والتي اعتبرتها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس يومذاك "مخاض ولادة الشرق الأوسط الجديد"، ولم تنقطع بعدها المحاولات الأميركية والإسرائيلية تحت جناح الحروب المتكررة التي شنت على قطاع غزة بعد انسحاب إسرائيل منه عام 2005 التي تجددت بقوة مع "صفقة القرن" والتي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته السابقة وكان منها اتفاقات التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية التي سميت "اتفاقيات إبراهيم"، وها هو قد عاد إلى البيت الأبيض مجددا ليستكمل هذه الاتفاقات واستئناف العمل لتحقيق "الشرق الأوسط الجديد" وقد مهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الطريق إليه عندما أعلن غداة عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة "حماس" وأخواتها في غلاف غزة في 7 تشرين الأول 2023 أنه يخوض معركة لـ"تغيير وجه الشرق الأوسط".
على أن "تغيير وجه الشرق الأوسط " يراه نتنياهو وخلفه، بل أمامه أيضا، الولايات المتحدة الأميركية بإسقاط "محور المقاومة" فقط، إذ تعتبر واشنطن وتل أبيب أنه بمجرد سقوط هذا المحور أو تراجعه وضعفه، تسقط المنطقة تلقائيا وبلا مقاومة في "العصر الأميركي ـ الإسرائيلي".
على أنَّ ما حصل في سوريا هو فصل من فصول الشرق الأوسط الجديد، وتمهيد لإدخالها في "صفقة القرن". ففيما قوى المعارضة المسلحة استولت على السلطة وتنشغل بتصفية الحسابات وتعيش "نشوة النصر" دمرت إسرائيل وتدمر كل المقدرات العسكرية والمدنية للدولة السورية التي هي ملك الشعب السوري أيًّا كانت السلطة التي تحكمه، وتقضم أراضي الجنوب السوري بالتدريج إلى حد أنها باتت على مقربة من دمشق، ولم يرتفع حتى الآن أي صوت من قيادات السلطة الجديدة يستنكر هذا العدوان الإسرائيلي المتمادي ما أثار ويثير استغراب العالم وتساؤلاته حول طبيعة توجهاتها ونظرتها إلى مستقبل سوريا الخارجة من سلطة حكمتها 54 عاما كان لها مؤيدوها والمعارضون داخل سوريا وخارجها.
ويقول مواكبون للوضع السوري الجديد إن السلطة الجديدة تنجح إذا لم تذهب إلى فكرة "تصدير الثورة" وتحلت بالواقعية بعيدا من عقلية الثأر والانتقام، بحيث تعمد إلى إقامة نظام متوازن يشرك كل مكونات الشعب السوري في القرار الوطني بما يحفظ الوحدة الوطنية السورية سياسيا وترابيًّا بحيث يكون هذا النظام موزع الصلاحيات بالتوازن بين رئيس جمهورية وسلطة تنفيذية جامعة فاعلة تشارك فيها كل ألوان الطيف السوري السياسي والطائفي، وذلك على طريقة اتفاق الطائف اللبناني ولكن بتنفيذ أمين يتلافى الأخطاء المرتكبة في تنفيذ ذلك "الطائف اللبناني" الذي كان نتاج طبخة لبنانية ـ لبنانية، ولبنانية ـ عربية، وعربية ـ عربية، وعربية ـ دولية، وعلى الأرجح إن هذا الطائف السوري إن اعتمد يمكن أن يحظى بدعم عربي كبير قبل الدعم الدولي نظرا للموقع الجيو -سياسي المهم لسوريا التي لطالما سميت على مرِّ التاريخ "قلب العروبة النابض" وكانت لا تزال في قلب معادلة النزاع العربي ـ الإسرائيلي القائلة: "لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سوريا".
ويرى المواكبون أن سوريا مثل لبنان لا يمكن أن يحكمها لون واحد أو طيف واحد، فسابقا كان يحكمها حزب البعث العربي الاشتراكي العابر بعقيدته القومية كل العوامل الطائفية والمذهبية وهذا ما جعل حكمه لها يدوم 54 عاما بغض النظر عن الأخطاء التي كان يرتكبها النظام نتيجة ممارسات بعض أركانه. أما الآن فإن حكم الحزب الواحد لم يعد صالحا في سوريا، ما يفرض أن يكون الحكم الجديد حكم شراكة وطنية، وإلا فإن البلاد السورية ستدخل في حرب أهلية لن يكون خطرها محصورا فيها وإنما سيتمدد إلى محيطها لأن أي فتنة طائفية أو مذهبية قد تحصل في سوريا قابلة للتصدير وتطاول شظايها وشرارتها لبنان والعراق وغيره من دول المنطقة ذات التنوع الطائفي والمذهبي.
ومن هنا تسود لبنان مخاوف كثيرة خصوصا في حال تصرفت القوى التي استولت على السلطة في سوريا على أساس الانتقام من حزب الله وبيئته اللذين وقفا إلى جانب النظام السابق في مواجهة التنظيمات المتطرفة التي استقدمت إلى سوريا من كل أصقاع الدنيا بغية إسقاط نظام الحكم بذريعة أنه حكم فئوي أقلِّي لسواد كبير من لون آخر، فيما كان الهدف إسقاط حلقة من حلقات "محور المقاومة" الذي تجد فيه إسرائيل خطرا يهدد وجودها، مثلما كانت تنظر إلى النظام المصري أيام حكيم الزعيم القومي العربي الكبير جمال عبد الناصر مُطلق النهضة القومية العربية منذ ذلك التاريخ.
ويتخوف المواكبون للوضع السوري من احتمال دخول قوى السلطة الجديدة في مرحلة "الثورة تأكل أبناءها" على الرغم من الخطاب الاعتدالي الذي بدأ يعتنقه قائدها العسكري أحمد الشرع المعروف بـ"ابي محمد الجولاني" بعد إعلان الولايات المتحدة الأميركية بلسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن أن النظام السوري الجديد يجب أن لا يكون دينيًّا، ما يعني أن الأميركيين يدفعون في اتجاه تركيب نظام في سوريا يخدم مصالحهم ولا يهدد أمن إسرائيل بالدرجة الأولى ويكون مندرجا في إطار "الشرق الأوسط الجديد" الذي لا يريدون أن يكون للمنظمات الإسلامية المتطرفة أي وجود فيه.