علي دربج - خاص الأفضل نيوز
لا يُحسد القادة الروس على الأوضاع الصعبة التي يعيشونها هذه الأيام، خصوصًا بعد خسارتهم المهينة والمذلة لسوريا. فمشاعر الغضب الممزوجة بالحزن والصدمة والذهول، كلها تسيطر الآن على النخب السياسية والقومية والأكاديمية وحتى الإعلامية في موسكو، بسبب فقدانهم للمنفذ الاستراتيجي الوحيد المتبقي لهم على المياه الدافئة.
صحيح أن موسكو تحاول جاهدة لملمة أوضاعها لحفظ ماء الوجه، واعترفت بأن الحفاظ على قواعدها العسكرية الحيوية في سوريا سيتطلب وقتًا ومفاوضات دقيقة مع مجموعات كانت تصفها بـ"الإرهابية" قبل أيام فقط، لكن مصير تلك القواعد أصبح الآن في خطر. كما أن استراتيجية روسيا في الشرق الأوسط بالكامل باتت معلقة في الهواء.
ما هو حجم القوة العسكرية المتبقية بسوريا؟
ومن غير الواضح حجم القوة الروسية الحالية على الأرض.
لهذه الغاية، قدرت قناة "YeZh" على "تليغرام" بقاء 7000 جندي في البلاد، يتوزعون بشكل رئيسي، ما بين ميناء طرطوس الاستراتيجي وقاعدة"حميميم" الجوية. وتعقيبًا على ذلك كتب فريدريك فان لوكرين، الضابط البحري البلجيكي المتقاعد، في تدوينة بتاريخ 8 كانون الأول (ديسمبر): "ما تعنيه طرطوس بالنسبة لروسيا هو القدرة على إبراز القوة البحرية والنفوذ السياسي دون منازع نسبيًا في الشرق الأوسط والسماح لها بالتأثير فوق ثقلها".
يُستخدم ميناء طرطوس لمساعدة العمليات الروسية في البحر الأسود، والتي تراجعت بشدة أيضًا بسبب الضربات الأوكرانية القاتلة للقطع العسكرية الروسية. وما زاد الطين بلة، أن السفن الحربية التابعة للكرملين ممنوعة من عبور مضيق البوسفور التركي بموجب معاهدة دولية.
بالمقابل، تقع قاعدة "حميميم" الجوية، على بعد حوالي 60 كيلومترًا من ساحل طرطوس. إضافة إلى أنها تضم الطائرات المقاتلة والمروحيات، فهي تشكل أيضًا وجهة لطائرات الشحن الضخمة التي تنقل الرجال والعتاد داخل وخارج سوريا.
يضم الأسطول الجوي الروسي في سوريا أكثر من عشرين قاذفة قنابل من طراز "Su-24" و"Su-25" وطائرات هجوم بري، وفقًا لتقرير شبه رسمي روسي نُشر في عام 2016. ويشمل كذلك، ما لا يقل عن ثماني قاذفات مقاتلة متقدمة من طراز "Su-30" و12 طائرة من طراز "Mi-24" مروحية هجومية و"كا-52"، من بين طائرات أخرى.
أكثر من ذلك، نشرت القوات الروسية أيضًا في سوريا أنظمة صواريخ باليستية قصيرة المدى من طراز "إسكندر-إم"، ونظام دفاع جوي متطور بعيد المدى من طراز "S-400"، فضلاً عن دفاعات قصيرة المدى مثل: أنظمة "بانتسير" و"تور".
غضب وصدمة في روسيا من فقدان سوريا
في الحقيقة، أظهر الانهيار السريع للنظام السوري محدودية القوة العالمية الروسية، في وقت يشن بوتين ما يسميه معركة وجودية ضد حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا. علاوة على ذلك، خلّفت الصفعة التي تعرضت لها موسكو في سوريا استياءً واسعًا لدى شريحة كبيرة من الشخصيات الروسية التي عبرت عن حزنها ومرارتها مما حصل.
ولهذه الغاية، كتب ميخائيل روستوفيسكي في صحيفة "موسكوفسكي كومسوموليتس" المؤيدة للكرملين قائلاً: "النظام الكامل للوجود الروسي في الشرق الأوسط، الذي تم بناؤه على مدار السنوات العشر الماضية واستُثمرت فيه موارد كبيرة جدًا، قد تتحول في لحظة إلى شيء من عصر سياسي تلاشى في غياهب النسيان".
وأضاف: "إنه واقع مؤلم، مؤسف، بل وجارح، لا يمكن إنكاره أو التقليل من شأنه."
وفي حين هاجم المدونون العسكريون الروس الأسد بشدة بسبب خسارة سوريا، رأى المحللون في موسكو، أن انشغال بوتين بالحرب في أوكرانيا أدى إلى فقدان التركيز على مشروعه في سوريا.
وتعليقًا على ذلك، أوضح رسلان بوخوف، مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتقنيات في موسكو، أن انهيار نظام الأسد كشف حدود القوة العسكرية الروسية، معتبرًا أن موسكو فشلت في هزيمة أعداء الأسد، مما يُظهر إخفاقًا استراتيجيًا واضحًا منذ سنوات.
ولفت بوخوف إلى أن روسيا ركزت على الحفاظ على "الوضع الراهن المتعفن وغير الفعال"، مما دعم نظام الأسد المتداعي دون أي آفاق للتغيير، وعجزت في الوقت نفسه عن التأثير على الديناميكيات المتنامية للقوى الأخرى.
من جانب آخر، أشار مدوّن عسكري روسي معروف باسم "فايتربومبر" إلى أن تجربة الحرب في سوريا زودتهم بالخبرة لمواجهة أوكرانيا، لكن العديد فقدوا حياتهم هناك.
وأضاف: "كنا مرحبًا بنا هناك في الماضي، لكن اليوم، لم يعد أحد بحاجة إلينا هناك. نحن نحتاج سوريا الآن، لكنها لم تعد تحتاجنا".
بدوره، وصف المحلل الموالي للكرملين، سيرغي ماركوف، الموقف قائلاً: "لا يمكن مساعدة جيش يفرّ، يمكن فقط مساعدة جيش يقاتل".
وفي السياق ذاته، قال رسلان سليمانوف، زميل باحث في معهد التنمية والدبلوماسية في باكو، إن بوتين كان مصممًا على إثبات أن موسكو لا تتخلى عن حلفائها، لكن سقوط الأسد أرسل رسالة معاكسة. ويبدو أن الزعيم الروسي "فقد اهتمامه" بسوريا بعد غزو أوكرانيا.
وأضاف سليمانوف: "بالتأكيد، هذه ضربة كبيرة لصورة بوتين في نظر القادة الآخرين في الشرق الأوسط وأفريقيا. لقد أظهر بوتين للجميع أنه لم يعد قادرًا على دعم حلفائه. إنه ببساطة لا يهتم. لم يعد لديه موارد مستقرة كثيرة. إنه مشغول بأشياء مختلفة تمامًا."
سوريا وسلسلة الإخفاقات الاستخباراتية الروسية
عمليًّا، كان فشل روسيا الأخير في إدراك ما تحضر له الولايات المتحدة بالتعاون مع إسرائيل وتركيا في سوريا، بمثابة مستوى منخفض جديد من سلسلة الإخفاقات الاستخباراتية الكارثية التي فقدت مصداقية وكالات الاستخبارات الروسية.
فموسكو كانت قاصرة عن التنبؤ بأن أوكرانيا ستقاوم بقوة الغزو الروسي في العام 2022، أو أن زعيم مرتزقة فاغنر يفغيني بريغوجين سينظم تمردًا في عام 2023. والأسوأ أنها لم تكن مستعدة عندما هاجم إرهابيو "داعش" قاعة للحفلات الموسيقية على مشارف موسكو في مارس/آذار، على الرغم من أن الولايات المتحدة تبادلت معها التحذيرات الاستخبارية بشأن الهجوم وموقعه. والكارثة الكبرى أنها لم تتوقع التوغل الأوكراني في أغسطس/آب الماضي، في منطقة كورسك في جنوب روسيا.
وماذا عن مستقبل الوجود الروسي في قاعدة حميميم وطرطوس؟
في الواقع، إن القلق الملح لموسكو الآن، هو مستقبل القاعدتين العسكريتين الحاسمتين: منشأة طرطوس البحرية، وقاعدة حميميم الجوية - موطئ قدم موسكو العسكري الثمين في الجناح الجنوبي لحلف "الناتو".
من هنا، ذكرت تاس يوم الأحد الماضي، نقلاً عن مسؤول في الكرملين، أن روسيا حصلت على موافقة من الجماعة المتمردة الرئيسية، "هيئة تحرير الشام"، على عدم مهاجمة القواعد أو الدبلوماسيين الروس. لكن مع ذلك، أقر المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف الاثنين الماضي، بأن مستقبل القاعدتين، على المدى الطويل محل تساؤل، مشيرًا إلى أن الأمر سيتطلب وقتًا قبل أن تتمكن روسيا من "إجراء محادثة جادة مع السلطات الحاكمة."
الجدير بالذكر، أنه بحلول الثلاثاء الفائت، غادرت السفن الروسية طرطوس وتمركزت على بعد خمسة أميال من الميناء، وفقًا لصور الأقمار الصناعية. وبينما لا تزال الطائرات الروسية متوقفة في قاعدة حميميم الجوية، كما أن القوات الروسية لا تزال موجودة في سوريا، رغم أن أعدادها ومواقعها غير واضحة، أوضحت دارا ماسيكوت، الزميلة البارزة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، على منصة X أن "إجلاء القوات والمعدات الروسية سيستغرق مئات الطلعات الجوية باستخدام طائرات ثقيلة".
إشارة إلى أن هاتين القاعدتين العسكريتين، اللتين مكنتا روسيا من عرض قوتها العسكرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، خدمتا أيضًا كمركز لوجستي رئيسي لعمليات روسيا في إفريقيا — وهو عنصر آخر في طموحات بوتين لتوسيع بصمة موسكو العالمية ومنافسة النفوذ الأمريكي في تلك القارة.
في المحصلة:
من المؤكد أن بوتين سيسعى لتجنب خسارة حميميم وطرطوس، ولكن مع تطور الأوضاع، من الصعوبة أن تسمح هيئة تحرير الشام (المرتبطة والممولة بتركيا الأطلسي)، للقواعد العسكرية الروسية بالبقاء على الأراضي السورية.
وعليه، فالوجود العسكري الروسي في منطقة الشرق الأوسط برمته، معلق بخيط رفيع.