نبيه البرجي - خاصّ الأفضل نيوز
منذ عقود والمستعرب الفرنسي جيل كيبل يدعو العرب الى عدم خوض الحروب بذهنية داحس والغبراء ، ها هو يقف مذهولاً أمام ما حدث في غزة التي تحولت الى "هيروشيما القرن" ليسأل ما إذا كانت الصورة التوراتية قد انقلبت رأساً على عقب ، ها أن جلعاد الفلسطيني بالصدر العاري يواجه داود الإسرائيلي المدجج بالفولاذ ، أكثر بكثير من القول أن الأسطورة الإسرائيلية سقطت تحت أقدام الحفاة ، وحتى تحت أقدام الموتى .
كيف للدولة العبرية أن تبقى حتى بالمعطف النووي إذا كان المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم يلاحظ حتمية الانحلال الآيديولوجي والانحلال الاستراتيجي بعد تلك الليلة الطويلة على أرض غزة ؟ كثيرون يلاحظون كيف أن الجيش الإسرائيلي وصل الى نقطة النهاية ، ضربات يومية على الرأس ، فعلاً كما لو أن الفلسطينيين كانوا يخرجون من قبورهم ، ليسأل ما إذا كان هناك مخرج إسرائيلي يصنع فيلماً على غرار فيلم الأميركي فرنسيس فورد كوبولا "الرؤيا الآن" (Apocalypse now ) ، وحيث الحديث عن الأهوال السيكولوجية التي أحدثتها الحرب الفيتنامية في الذاكرة الأميركية .
موشى ديان الذي كان وما زال يعتبر الدماغ العسكري الخارق في تاريخ إسرائيل ، اعتبر أن الحروب التي تخوضها إسرائيل هي بمثابة "ضرورة إلهية" لبلورة المفهوم العضوي ، والمفهوم الفلسفي ، لدولة فيسفسائية حاولت دوماً أن تفرض نفسها كقوة لا تقهر ،ماذا حين تقهر؟.
لبنان استقبل إيمانويل ماكرون لتقول "الفيغارو" أن هذه عادة فرنسية درج عليها الرؤساء الفرنسيون ليثبتوا أنه لا يزال هناك زاوية ما ولو كانت كانت الزاوية الرومانسية لبلادهم في الشرق الأوسط مع التوقف عند ما تقوله التعليقات الفرنسية عن أن الحرب الأخيرة في غزة ولبنان هي آخر الحروب في المنطقة حتى أن دونالد ترامب لن يوافق على دعوة بنيامين نتنياهو لضرب إيران كآخر حلقة من السيناريو الخاص باحتواء الشرق الأوسط.
الرئيس الأميركي الذي ينتقل الى المكتب البيضاوي بعد أيام يعتقد أن هناك وسائل أخرى لفعل ذلك بعدما أعجبته عبارة الجنرال ديفيد بترايوس غداة الخروج من أفغانستان "عسى أن تكون هذه آخر تجربة لنا في استراتيجية المستنقعات" ، ومع اعتبار أن ما حدث في سوريا وفي لبنان أدى إلى الانكفاء الجيوسياسي ، والجيو ستراتيجي ، لآيات الله .
اللافت في هذا السياق تلميح بعض التعليقات في صحف اليمين بضرورة أن يتنبه زعيم الليكود الى أن رجل البيت الأبيض هو دونالد ترامب لا جو بايدن ،الأول ينطلق في سياساته حيال الشرق الأوسط من زاوية أميركا العظمى ، الثاني يعتبر أن الدور الإسرائيلي هو من يحمي المصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.
الرئيس المنتخب يريد استئناف دومينو التطبيع بالضربات الخفيفة على الظهر ، ووفقاً لميثاق ابراهيم ، لكن نتنياهو يريد أن يشق الطريق الى العمق العربي بالدم أو بالنار ، رفيقه في الائتلاف ايتامار بن غفير يريد أن يعقد السلام مع العرب وهم في القبور ، تماماً كما كان يقول استاذه الحاخام مئير كاهانا مؤسس حركة "كاخ" التي كان وزير الأمن القومي الإسرائيلي عضواً بارزا فيها
ماكرون استبق عودة ترامب الى البيت الأبيض بالقول إن إيران تشكل تهديداً للأمن الاستراتيجي في الشرق الأوسط ، هل هناك في المنطقة غير الأمن الاستراتيجي الأميركي ؟ لا أحد يتجرأ على الاقتراب ، الصينيون المصابون بـ"لوثة الأسواق" بعيدون جداً عن خوض أي صراع مع أميركا، الروس يقولون إن قاعدتهم الجوية في حميميم السورية وكذلك قاعدتهم البحرية في طرطوس للخدمات اللوجسيتية لا للخدمات العملانية
المنطقة ستكون حتماً أمام تتطورات مثيرة، بدل الزلزال العسكري الذي تنتهي اهتزازاته االترددية ببدء وقف النار يوم 19 كانون الثاني ، الزلزال الديبلوماسي ، ولكن هل يمكن لترامب الذي وعد بتوسيع مساحة إسرائيل القبول بقيام دولة فلسطينية في غزة والضفة ؟ السعوديون قالوا كلمتهم لا تطبيع إلا مع الدولة الفلسطينية ، هنا المشكلة إذا ما عدنا الى رؤية غالبية الفربق الترامبي للشرق الأوسط.
المثير أنه عندما يقول نتنياهو أنه قضى على قوة كل من "حزب الله" وحركة "حماس" نلاحظ أن وزير الخارجية المقبل ماركو روبيو يعتقد أن الحرب الأخيرة أظهرت أن أعداء إسرائيل لن يخلدوا إلى السكينة "انهم ينتظرون أن تظهر أظافرهم مرة أخرى " أية أظافر أمام تلك الأرمادا الجوية الهائلة ليس هذه هي المشكلة عند المخططين الإسرائيليين الذي يعتقدون أن أحداث غزة لا بد أن تؤجج أكثر فأكثر ذاكرة النار لدى الفلسطينين .
من أكثر ما نقرأه إثارة في هذه الأيام خشية الفيلسوف الفرنسي اليهودي آلان فينكيلكروت من أن غزة التي تفجرت لا تهدد بتفجير الائتلاف الحاكم في إسرائيل فقط وإنما تهدد أيضاً بتفجير إسرائيل نفسها .
على كل ، وبعدما بدا أن ترامب "قال للاتفاق كن فكان" تعهد لنتنباهو بالبقاء في السلطة حتى لو استقال وزراء معارضون للاتفاق ولكن من يستطيع أن يتكهن بطبيعة التفاعلات السياسية في إسرائيل بعد تنفيذ الاتفاق ؟ لن يكون هناك هدوء ،ولن يبقى نتنياهو ..
في لبنان عهد جديد ، وتعهدات بالنهوض من مسلسل الأزمات بل من مسلسل الكوارث ، حتى ليبدو أن أهل العهد مطمئنون الى أن لبنان سيكون بعيداً عن الساعة الديبلوماسية الكبرى ، بعدما تجاوز الساعة العسكرية الكبرى آخر من يشاهد في قافلة التطبيع ...