إلياس مخايل المرّ - خاصّ الأفضل نيوز
في تطور لافت وغير مسبوق، دخلت العلاقات بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في نفق مظلم، بعد أن بلغت حدة التوتر بين الطرفين مستوى غير معهود، وسط اتهامات متبادلة بعدم الالتزام السياسي والتنسيق الاستراتيجي.
الأزمة التي بدأت خلف الأبواب المغلقة خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، سرعان ما خرجت إلى العلن، مع تصريحات ترامب المستفزة حول “ريفييرا غزة”، وميله للتهدئة مع إيران، ما أثار سخط حكومة نتنياهو التي رأت في المواقف الأميركية الجديدة انقلاباً على التحالف التاريخي.
لكن ما يثير الانتباه أكثر من الخلاف بحد ذاته، هو الفراغ الاستراتيجي الذي تخلّفه واشنطن في لحظة دقيقة من التحولات الإقليمية، ما يفتح الباب أمام قوى دولية منافسة – أبرزها روسيا والصين – للتقدم وملء هذا الفراغ، سواء عبر الأمن والسياسة، أو عبر الاقتصاد والدبلوماسية.
موسكو: الحليف الضروري… والمؤقت
منذ تدخلها العسكري في سوريا عام 2015، تمكنت روسيا من فرض نفسها كقوة مقرِّرة في توازنات الشرق الأوسط، خصوصاً في ما يتعلق بالجبهة الشمالية لإسرائيل.
وفي ظل فتور العلاقة بين تل أبيب وواشنطن، لا تجد إسرائيل بداً من تعزيز قنوات التواصل مع الكرملين، خاصة في الملفات الأمنية الحساسة، وعلى رأسها التنسيق في الأجواء السورية، ومراقبة تحركات “حزب الله” وإيران.
روسيا تدرك جيداً هشاشة الموقف الإسرائيلي في ظل انسحاب نسبي للدعم الأميركي، وتطرح نفسها كوسيط قاسٍ لكنه موثوق، خاصة إذا ما تأزمت علاقات إسرائيل مع إدارة ترامب على مدى طويل.
إلى جانب ذلك، لا تخفي موسكو رغبتها في لعب دور الوسيط الإقليمي، ولو بالتوازي مع إيران، بهدف تقويض التفرد الأميركي في إدارة الصراعات، وفرض معادلات جديدة تعكس تعددية قطبية في الشرق الأوسط.
الصين: الصعود بهدوء عبر المال والدبلوماسية
خلافاً للنهج الروسي الصدامي أحياناً، تتحرك الصين بهدوء عبر أدواتها الاقتصادية والدبلوماسية، في إطار استراتيجية طويلة الأمد لإعادة تشكيل النفوذ العالمي، تبدأ من آسيا وتمر بالخليج وتنتهي في المتوسط.
في السنوات الأخيرة، بنت بكين جسوراً مع دول الخليج وإيران، ونجحت في رعاية الاتفاق التاريخي بين الرياض وطهران في مارس 2023، وهو ما عزز موقعها كوسيط محايد في أكثر الملفات حساسية.
أما على الساحة الإسرائيلية، فالعلاقة مع الصين مركبة. رغم الضغوط الأميركية لوقف التعاون التكنولوجي والاستثماري مع بكين، لا تزال شركات صينية تنفذ مشاريع بنى تحتية ضخمة في إسرائيل، من بينها إدارة موانئ ومشاريع نقل حضري.
ويبدو أن بكين على استعداد لتعميق هذا التعاون في حال استمرار التوتر الإسرائيلي–الأميركي، خاصة أن تل أبيب بدأت تدرك ضرورة تنويع تحالفاتها وتخفيف الارتهان الكامل للموقف الأميركي، الذي بات أكثر تقلباً من أي وقت مضى.
سيناريوهات المستقبل: تعددية قطبية ومجال للمناورة
إذا ما استمر الخلاف بين ترامب ونتنياهو، فإننا سنشهد على الأرجح إعادة تموضع إسرائيلي، يقوم على موازنة النفوذ الأميركي التقليدي مع انفتاح محسوب على روسيا والصين.
لكن لا يمكن لإسرائيل أن تستغني عن واشنطن بالكامل، لا عسكرياً ولا مالياً، ما يعني أن أي تقارب مع موسكو أو بكين سيبقى – في المرحلة الراهنة – رهاناً تكتيكياً أكثر منه خياراً استراتيجياً.
مع ذلك، فإن الدور المتصاعد لروسيا والصين في ملفات غزة، إيران، والاتفاقات الإقليمية، يعكس تحولاً حقيقياً في موازين القوى العالمية، حيث لم تعد الولايات المتحدة اللاعب الأوحد، حتى في مناطق نفوذها التاريخي.
الخلاصة: عالم جديد يولد في الشرق الأوسط
ما يحصل اليوم ليس مجرد أزمة ثنائية بين رئيسين؛ بل هو مؤشر على تغيرات أعمق في البنية الاستراتيجية للمنطقة. في ظل انسحاب تدريجي للنفوذ الأميركي، وبروز نظام دولي أكثر تعقيداً وتعددية، تتحول كل أزمة سياسية إلى فرصة لإعادة رسم خارطة النفوذ.
روسيا تستثمر في المخاوف الأمنية، والصين في الحاجات الاقتصادية، وإسرائيل تجد نفسها أمام لحظة اختبار نادرة: إما أن تبقى أسيرة تحالف أحادي تقوده واشنطن، أو أن تبدأ – ولو جزئياً – الخروج من العباءة الأميركية نحو توازنات أوسع وأكثر واقعية.