د. رائد المصري - خاص الأفضل نيوز
رأى الإسرائيليون وفهموا بشكل واضح، إعادة تشكيل المنطقة بتأثير سعودي وبشكل دقيق، مع الأبعاد السياسية لزيارة ترامب للسعودية وقطر والإمارات العربية المتّحدة، وبالتأكيد لم يقلّلوا من أهميّة البُعد الاقتصادي للزيارة في إطار جذب الاستثمارات السعودية والخليجية إلى أميركا، فما يجري في المملكة العربية السعودية هذه الأيّام، هو زلزالٌ سياسي يُعيد رسم معالم الإقليم، وستستمرُّ هزّاته ارتدادية لسنوات عدة، بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب زيادة الأدوار الدوليّة للمملكة العربية السعودية، التي امتدَّت من روسيا إلى أوكرانيا ومعها تركيا والسودان.
قلبت الرياض مسار التاريخ، في لحظة مصيرية تمرّ بها المنطقة، بتحرير الشعب السوري من العقوبات، وخفَّفت من اندفاعة واشنطن بعد التحريض الإسرائيلي ضدّ إيران، وفتحت الباب لمستقبل جديد قائم على حلّ عادل للقضيّة الفلسطينية، وحسناً فعل، بعدم التقاط نتنياهو هذه الفرصة التاريخية لتتعرى أكثر وتنكشف دولة الكيان العنصرية المتوحشة، ففي الوقت الذي كان يتحدّث فيه ترامب من الرياض عن ضرورة تحرير المحتجزين كافّة، كانت الطائرات الإسرائيلية تغير على مستشفى خان يونس الأوروبي، فغادر ترامب المنطقة، وبقي نتنياهو على محطّة الانتظار، مع الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن غفير.
فزيارة ترامب إلى الخليج، لها تبعات ودلالات سياسية كبيرة ومهمة على إسرائيل، زيارة فتحت جدلاً واسعاً في إسرائيل، بما يتعلّق بمسؤوليّة نتنياهو عن العُزلة التي تواجهها البلاد، في إعادة تركيب المشهد الجيوسياسي الجديد، لكن الأهم هي أن إسرائيل لم تَعد الحليف المُفضَّل، ومن المؤكد أنها لم تعدْ الحليف الوحيد للولايات المتحدة في المنطقة، والأعظم من كل ذلك، هو أن دول الخليج بات يقدّم للولايات المتحدة خيارات اقتصادية ومالية، لا تستطيع إسرائيل منافستها أو تقديم خيارات بديلة، وبهذا تكون المنطقة العربية والشرق الأوسط، أمام معطيات جديدة تتعلق، أولاً، فقدانها في المدى البعيد جزءاً من تفوّقها التكنولوجي لمصلحة دول المنطقة، وثانياً، تكبيل يديها للعمل بحُرية مطلقة في تنفيذ نزواتها السياسية والعسكرية، وإذا أرادت أن تكون جزءاً من المنطقة، بحال قبلت كل الأطراف في الإقليم، بشروط حل عادل للدولة وللسشعب الفلسطيني، فعليها أن تأخذ في اعتبارها أيضاً مصالح المعسكر الذي تسعى للانضمام إليه.
هناك اتهامات بدأ يسوقها الداخل الإسرائيلي والنُّخب الحاكمة ضد نتنياهو، وهي تركّز على مسؤوليّته عن استمرار الحرب على غزّة من دون أيّ أفق سياسي، وتغليب مصالحه الشخصيّة على المصالح "الوطنية" في الداخل الإسرائيلي، وكذلك عجزه عن فهم ترامب وقراءة رؤيته للمصالح الأميركية في المنطقة، والتحوّلات التي تجري فيها، فلم يكن عاديّاً المشهد الجيوسياسي في المنطقة قبيل الزيارة التاريخية للرئيس الأميركي، وما جرى في تلك الزيارة من لقاءات ومواقف وصفقات حتماً ستغيّر وجه المنطقة، لكن ليس على الشكل الذي أراده رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وذلك بدليل ما سبق زيارة ترامب ورافقها من إتّفاقات منفردة بين ترامب والحوثيين في اليمن، وبينه وبين حركة حماس لإطلاق سراح الأسير الإسرائيلي الأميركي عيدان ألكسندر، بهدف تعقيد الموقف السياسي والميداني لإسرائيل، وفتح قناة حوار مع واشنطن، من دون التنسيق مع نتنياهو وبمعزل عنه، حتّى إنّ رفع العقوبات عن سوريا واستقبال رئيسها أحمد الشرع في الرياض برعاية سعودية، يتناقض مع المخطّط الإسرائيلي المُعلن لتقسيم سوريا، بما يعني إضعاف الحكومة المركزية وإغراق سوريا في الفوضى لسنوات طويلة.
خلال الأيام القليلة المنصرمة، كانت إسرائيل كلّها خارج مسار التاريخ، وعلى كراسي المتفرّجين لا على طاولة صناع القرار في المنطقة، وهذا إنجاز غير مسبوق للعرب ولدول الخليج وللمسلمين، من دون أن ننسى الصعاب والاعتراضات والكمائن الموجودة التي يتربَّص بها البعض، لتعطيل سير هذه الملفات وسلاسة تحقيقها، خاصة المشهد السياسي في سوريا وجغرافيتها الحيوية، والمتنازَع عليها بين الدول القريبة والبعيدة، حيث أن ملامح الواقع الاستراتيجي في المنطقة التي وضع خطوطها العريضة الرئيس الأميركي، بزيارته التاريخية، سترسم الجغرافيا السياسية في الإقليم على مدى العقود القادمة، وقد تستمر حتى نهايات القرن الحالي تحت عنوان العصر العربي_الخليجي، في التأسيس لنظام جديد في المنطقة، يغلب عليه طابع الاستقرار والأمن في بلدان الإقليم، استعدادًا لإطلاق مسيرة كبيرة من التطوير والتحديث والازدهار، والتخلُّص من النزاعات الإقليمية، مع كل تداعيات عدم الاستقرار الذي هيمن على بلدان الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا منذ أكثر من خمسين سنة.
أجواء الانسجام والتفاعل الإيجابي كانت كبيرة وواضحة في المحادثات التي عقدها ترامب مع قادة دول الخليج، وهي أنتجت تفاهمات كبيرة وأظهرت قماشة جديدة لطبيعة العلاقات المتينة بين الطرفين، وربما إعادةِ صياغة وتكريس دور كبير للمملكة في تحقيق النقلة النوعية المطلوبة، للانتقال إلى آفاق التعاون بين دول الإقليم، عبر إعطاء الأولوية للتنمية المستدامة، وتبادل الخبرات في مختلف الميادين، وتنسيق القطاعات الإنتاجية بين دول المنطقة، وصولاً إلى إنشاء سوق شرق أوسطية مشتركة تضم إلى الدول العربية، كُلًّا من تركيا وإيران، فالشرق الأوسط يتغيّر فعلاً، لكن من دون نتنياهو، وعلى عكس رؤيته التوسّعية، التي كان يُكثر الكلام عنها، مع رفاقه اليمينيين المتطرّفين، فقد كان نتنياهو يعتبر، وهو الذي يخوض حرباً بلا نهاية في قطاع غزّة، أنه لن يكون بعيداً عن الحدث، وبأنّه الصانع الحقيقي لهذا التاريخ، من خلال حربه على غزّة ولبنان امتداداً إلى سوريا، وإسهامه في إضعاف الأسد وإسقاطه، لكنّ مشكلته في الرؤية الاستراتيجيّة، وهي أنّها لا تتلاءم مع المصالح الأميركية ولا العربية الإسلامية بطبيعة الحال، فنتنياهو يريد قصف إيران وتقسيم سوريا وتصفية القضيّة الفلسطينية، وتفريغ فلسطين من سكّانها الفلسطينيين إبتداء من غزّة، وصولاً إلى فرض التطبيع على العالم العربي كلّه دون أيّ مقابل سياسي، ومن دون أيّ تعهّد بإقامة دولة فلسطينية، على أي بقعة من فلسطين التاريخية، فجاء الخطاب وكانت الزيارة غير إعتيادية للخليج، وكانت بمنزلة إعلان تحوّل في العقيدة السياسية الأميركية تجاه المنطقة.